135
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

ثم ذكر عليه السلام أنّ أهل الشام اختارُوا لأنفسهم أقربَ القوم مما يحبّونه ، وهو عمرو بن العاص ، وكرّر لفظة «القوم» ، وكان الأصل أن يقول : ألا وإنّ القومَ اختاروا لأنفسهم أقربَهم مما يحبُّون ، فأخرجه مخرج قول اللّه تعالى : «وَاتَّقُوا اللّه إنَّ اللّه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ۱ . والذي يحبّه أهل الشام هو الانتصار على أهلِ العراقِ والظَّفَر بهم ، وكان عمرو بن العاص أقربَهم إلى بلوغ ذلك ، والوصول إليه بمكْره وحيلته وخدائِعه . والقوم في قوله ثانياً : «أقربُ القوم» ، بمعنى النّاس كأنّه قال : واخترتم لأنفسكم أقرب الناس ، ممّا تكرهونه ، وهو أبو موسى الأشعري ، واسمه عبد اللّه بن قيس ، والذي يكرهه أهلُ العراق هو ما يحبّه أهل الشام ، وهو خذلان عسكر العراق وانكسارهم ، واستيلاء أهل الشام عليهم ، وكان أبو موسى أقرَب النّاس إلى وقوع ذلك ، وهكذا وقع لِبلَهِه وغفْلته وفساد رأيه ، وبغضه عليّا عليه السلام من قبل .
ثم قال : أنتم بالأمس ، يعني في واقعة الجمل ، قد سمعتم أبا موسى ينهى أهل الكوفة عن نُصْرَتي ، ويقول لهم : هذه هي الفتنة التي وعدنا بها ، فقطّعوا أوتار قِسيِّكم . وشيموا سيوفكم ، أي أغمدوها فإن كان صادقاً فما باله سَار إليّ ، وصار معي في الصفّ ، وحضر حرب صِفّين ، وكثّر سواد أهل العراق وإن لم يحارب ، ولم يسلّ السيف ، فإنّ مَنْ حضَر في إحدى الجهتين وإن لم يحارب كمن حارب ، وإن كان كاذباً فيما رواه من خَبَر الفتنة فقد لزمتهْ التُّهمة وقُبِّح الاختلاف إليه في الحكومة .
قوله عليه السلام : «فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد اللّه بن العباس» ، يقال لمن يرام كفّه عن أمر يتطاول له : ادفع في صدره ؛ وذلك لأنّ من يقدم على أمر ببدنه فيدفع دافع في صدره حقيقة ، فإنه يردّه أو يكاد ، فنقِل ذلك إلى الدفع المعنويّ . «وخذوا مَهَل الأيّام» ، أي اغتنموا سَعَة الوقت . وخذوه مناهَبَةً قبل أن يضيق بكم أو يفوت . «وحوطوا قواصِيَ الإسلام» ، ما بَعُدَ من الأطراف والنواحي .
ثم قال لهم : «ألا ترون إلى بلادِكم تُغْزَى !» ، هذا يدلّ عَلَى أن هذه الخطبة بعد انقضاء أمرِ التحكيم ؛ لأنّ معاوية بعد أن تمّ عَلَى أبي موسى من الخديعة ما تمّ استعجل أمرَه ، وبعث السّرايا إلى أعمال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام .
وتقول : قد رمى فلان صَفاة فلان ، إذا دهاه بداهية ، قال الشاعر :

والدَّهْرُ يُوتر قوسَهيرمي صَفاتك بالمعابِلْ

1.سورة المائدة ۷ .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
134

فَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ ، وَشِيمُوا سُيُوفَكُمْ ، فَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِيرِهِ غَيْرَ مُسْتَكْرَهٍ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهَمَةُ . فَادْفَعُوا فِي صَدْرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ الْعَبَّاس ، وَخُذُوا مَهَلَ الْأَيَّامِ ، وَحُوطُوا قَوَاصِيَ الاْءِسْلاَمِ . أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى بِلاَدِكُمْ تُغْزَى ، وَإِلَى صَفَاتِكُمْ تُرْمَى !

الشّرْحُ:

جفاة : جمع جافٍ ، أي هم أعراب أجْلاف . والطّغام : أوغاد الناس ، الواحد والجمع فيه سواء . ويقال للأشرار واللئام : عبيد ، وإن كانوا أحرارا . والأقزام ، بالزاي : رُذال الناس وسِفْلتهم ، والمسموع قَزَم ، الذكر والأنثى والواحد والجمع فيه سواء ؛ ولكنه عليه السلام قال : « أقزام » ليوازن بها قوله : «طغام» ، وقد روي : «قِزَام» ، وهي رواية جيدة ، وقد نطقت العرب بهذه اللفظة . وجُمعوا من كلّ أوب ، أيْ من كلّ ناحية . وتُلقِّطُوا من كلِّ شوب ، أي من فِرَقٍ مختلطة .
ثم وصف جهلهم وبعدَهم عن العِلْم والدّين ، فقال : ممّن ينبغي أن يفقّه ويؤدّب ، أي يعلّم الفقه والأدب . ويدرّب ، أي يعوّد اعتماد الأفعال الحَسنة والأخلاق الجميلة . ويولَّى عليه ، أي لا يستحقُّون أن يولَّوْا أمرا ، بل ينبغي أن يحجَر عليهم كما يحجر على الصبيّ والسّفيه لعدم رُشْده . وروي : «ويولَى عليه» ، بالتّخفيف . ويؤخذ على يديه ، أي يمنع من التصرّف .
قوله عليه السلام : «ولا الذين تبوءوا الدّار والإيمان» ، ظاهر اللفظ يشعر بأن الأقسام ثلاثة وليست إلاّ اثنين ؛ لأنّ الّذين تبوءوا الدّار والإيمان الأنصار ، ولكنه عليه السلام كرّر ذكرهم تأكيدا ، وأيضا فإن لفظة «الأنصار» واقعة على كلِّ مَنْ كان من الأوس والخزرج ، الذين أسلَمُوا على عهدِ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلموالذين تبوءوا الدار والإيمان في الآية ، قوم مخصوصون منهم ، وهم أهل الإخلاص والإيمان التّام فصار ذكرُ الخاصّ بعد العام ، كذكره تعالى جبريل وميكائيل ؛ ثم قال : «والمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِك ظَهِير» ۱ ، وهما من الملائكة . ومعنى قوله : «تبوءوا الدار والإيمان» سكنوهما ، وإن كان الإيمان لا يسكن كما تسكن المنازل ، لكنّهم لما ثبتوا عليها ، واطمأنّوا سمّـاه منزِلاً لهم ومتبوَّأً .

1.سورة التحريم ۴ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 6036
صفحه از 800
پرینت  ارسال به