191
تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي

صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ لَهَا ، وَلاَ تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ ، وَلاَ تُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لاِشْتِغَالٍ . وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلاَتِكَ .

الشّرْحُ:

آسِ بينهم : اجعَلْهم أسوَة ، لا تفضّل بعضهم على بعض في اللَّحظة والنظرة ، ونبّه بذلك على وجوب أن يَجعَلهم أسوَة في جميع ما عدا ذلك ، من العطاء والإنعام والتقريب ، كقوله تعالى : «فَلا تَقلْ لَهُمَا أُفٍّ» ۱ .
قوله : «حتى لا يطمع العظماءُ في حَيْفك لهم» ، الضمير في «لهم» راجعٌ إلى الرعيّة لا إلى العظماء ، وقد كان سبق ذكرهم في أوّل الخطبة ، أي إذا سلكتَ هذا المسلكَ لم يَطمع العظماءُ في أن تحيف على الرعيّة وتظلمهم وتدفعَ أموالهم إليهم ، فإنّ وُلاة الجور هكذا يفعلون ، يأخذون مال هذا فيُعطونَه هذا . ويجوز أن يرجع الضمير إلى العظماء ، أي حتّى لا يطمَع العظماءُ في جَوْرك في القَسْم الّذي إنما تفعله لهم ولأجلهم ، فإنّ ولاة الجور يَطمَع العظماءُ فيهم أن يحيفوا في القسمة في الفَيْء ، ويخالفوا ما حدّه اللّهُ تعالى فيها ، حفظا لقلوبهم ، واستمالةً لهم ، وهذا التفسير أليَقُ بالخطابة ؛ لأنّ الضمير في «عليهم» في الفقرة الثالثة عائد إلى الضعفاء ؛ فيجب أن يكون الضمير في «لهم» في الفقرة الثانية عائدا إلى العظماء .
قوله : «فإن يعذب فأنتم أظلم» أفعل هاهنا بمعنى الصّفة ، لا بمعنى التفضيل ، وإنما يراد فأنتم الظالمون ، كقوله تعالى : «وَهُوَ أَهوَنُ عَلَيْهِ» ۲ . وكقولهم : اللّه أكبر .
ثم ذكر حال الزُّهاد فقال : أخذوا من الدنيا بنصيبٍ قويّ ، وجعلت لهم الآخرة . ورُوِي : «والمتْجَر المربح» ، فالرابح فاعلٌ من ربح رِبْحا ، يقال : بيعٌ رابح أي يُربَح فيه ، والمُربح : اسم فاعل قد عُدِّيَ ماضيه بالهمزة ، كقولك : قام وأقمتُه .
قوله : «جيرانُ اللّه غدا في آخرتهم» ؛ ظاهر اللفظ غيرُ مراد ، لأنّ البارئ تعالى ليس في مكان وجهةٍ ليكونوا جيرانَه ، ولكن لمّا كان الجار يُكرِم جاره سمّـاهم جيران اللّه ، لإكرامه إيّاهم ، وأيضا فإنّ الجنة إذا كانت في السّماء والعرش هو السّماء العليا ، كان في الكلام محذوف مقدَّر ، أي جيرانُ عرش اللّه غدا .

1.سورة الإسراء ۲۳ .

2.سورة الروم ۲۷ .


تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
190

الَّلحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ ، وَلاَ يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّ اللّهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَالْكَبِيرَةِ ، وَالظَّاهِرَةِ وَالْمَسْتُورَةِ ، فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ ، وَإِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ .
وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللّهِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الاْخِرَةِ ، فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ ، وَلَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ ؛ سَكَنُوا الدُّنْيَا بَأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ ، وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ ، فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ ، وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ ؛ ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ ؛ وَالْمَتْجَرِ الرَّابِحِ ؛ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ ؛ لاَ تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ ، وَلاَ يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ .
فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللّهِ الْمَوْتَ وَقُرْبَهُ ، وَأَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ ، وَخَطْبٍ جَلِيلٍ ؛ بِخَيْرٍ لاَ يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً ، أَوْ شَرٍّ لاَ يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَداً . فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا ! وَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى النَّارِ مِنْ عَامِلِهَا ! وَأَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ ؛ إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ ، وَإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ ، وَهُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ . الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ ؛ وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ .
فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ ، وَحَرُّهَا شَدِيدٌ ، وَعَذَابُهَا جَدِيدٌ ؛ دَارٌ لَيْسَ فِيها رَحْمَةٌ ، وَلاَ تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ ، وَلاَ تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ . وَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللّهِ ، وَأَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ ، فَاجْمَعُوا بيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ ، وَإِنَّ أَحْسَنَ النَّاس ظَنّاً بِاللّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً للّهِ .
وَاعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ، أنـِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ ، فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ ، وَأَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِكَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلاَّ سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ ، وَلاَ تُسْخِطِ اللّهَ بِرِضَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ ؛ فَإِنَّ فِي اللّهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ مِنَ اللّهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ .

  • نام منبع :
    تهذيب «شرح نهج البلاغة» لإبن أبي الحديد المعتزلي
    سایر پدیدآورندگان :
    عبد الحمید بن هبة الله ابن ابی الحدید، به کوشش: سید عبد الهادی شریفی
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 6059
صفحه از 800
پرینت  ارسال به