إشكالات المحدثين
المحدثون هم الّذين يكتفون بظواهر نقل الأخبار والرواية وقد تسربت عليهم مواضع كثيرة من الخلل والنقص ، وتطرّق إليهم الضعف والوهن في كثير من مأثوراتهم ونقولهم الروائية ، إلى حدٍّ كاد يفقدنا الثقة التامّة بكلّ مارووا وما استظهروه في ثنايا بحوثهم الروائية، ۱ حيث وفرة أسباب الضعف والوهن في ذلك الخضم من المرويات في كتب الحديث والرواية ، حيث خلط سليمها بسقيمها بحيث خفي وجه الصواب.
ولقد كانت كثرة المروي من ذلك الحشد الهائل من الأخبار والروايات جاوزت الحد في منظومة التراث الروائي ، وبخاصّة ما إذا وجدنا التناقض وتضارب الأقوال والمعتقدات والتزمت في الرأي والاعتقاد ، وما شابه ذلك من تبعات وويلات.
وكثيرا ما نشهد تضادّ ما نسب إلى راوي واحد ، كما نسب إلى بعض المحدثين ، كلّ ذلك كان من أكبر عوامل زوال الثقة بهم أو بالأكثرية الساحقة منها، الأمر الّذي استدعى التثبت وإمعان النظر والبحث والتمحيص. ۲
وقد كان أصحاب المسلك العقلي ـ والّذين عليهم المدار في السجالات العقلية ، وخصوصا رواد المسلك الكلامي ، الّذين أشبعت توجيهاتهم بالمداق والفذلكات الدقيقة والمتشعبة ـ الدور الرئيسي في مواجهة المحدثين منذ بزوغ الرسالة حتّى يومنا الحاضر ، وقد نسبوهم إلى التقليد والتسليم والتفويض.
ومن بين هؤلاء الأعلام الشريف المرتضى قدس سره المنخرط في المسلك الكلامي والعقلي ، فقد كانت مسالكه معروفة في هذا المجال، وكان يعتقد أنّ الحجج العقلية
والظواهر القرآن ية هي خير سبيل لحفظ الأصالة الإسلاميّة من الوقوع في ورطة السذاجة والبساطة.
يقول الشريف المرتضى قدس سره: « إنّ المعول فيما يعتقد على ما تدلّ الأدلّة عليه من نفي وإثبات، فإذا دلّت الأدلة على أمر من الاُمور وجب أن نبني كلّ وارد من الأخبار إذ كان ظاهره بخلافه عليه، ونسوقه إليه، ونطابق بينه وبينه، ونجلي ظاهرا إن كان له، ونشرط إن كان مطلقا، ونخصّه إن كان عاما، ونفصله إن كان مجملاً، ونوفق بينه وبين الأدلّة من كلّ طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة .
وإذا كنّا نفعل ذلك ولا نحتشمه في ظواهر القرآن المقطوع على صحّته المعلوم وروده، فكيف نتوقّف عن ذلك في أخبار آحاد لا توجب علما ولا تثمر يقينا ؟ !
فمتى وردت عليك أخبار فاعرضها على هذه الجملة وابنها عليها، وافعل فيها ما حكمت به الأدلّة وأوجبته الحجج العقلية ، وإن تعذر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل فليس غير الإطراح لها وترك التعريج عليها» ۳ فهذا المقياس الّذي أشار اليه قدس سره قلّما تفلت منه رواية أو خبر .
وقبل أن ندخل إلى صلب الموضوع لابدَّ أن نعرف أنّ الخبر والرواية ينتميان إلى المحدثين ، وهؤلاء الثُلة بما أنّهم محدثون قد نسب إليهم الشريف المرتضى قدس سرهالتقليد والتسليم والتفويض ، وعلى هذا المنطق في الرؤية سوف تخرج أقوال هؤلاء عن منطق البحث العلمي .
فقد جعلهم الشريف المرتضى قدس سره من المنتسبين إلى أصحابه الإمامية ، ولا اعتبار بخلافهم ؛ لأنّ الخلاف ـ كما يقول ـ إنّما يفيد إذا وقع ممّن بمثله اعتبار في الإجماع من أهل العلم والفضل والرواية والتحصيل.
يقول الشريف المرتضى قدس سره ـ في مسألة رؤية الهلال وخلاف المحدث ـ : «والّذين
خالفوا من أصحابنا في هذه المسألة عدد يسير ممّن ليس قوله بحجّة في الاُصول ولا في الفروع ، وليس ممّن كلف النظر في هذه المسألة ، ولا ما في أجلى منها ؛ لقصور فهمه ، ونقصان فطنه .
وما لأصحاب الحديث الّذين لم يعرفوا الحقّ في الاُصول ولا اعتقدوها بحجّة ولا نظر ، بل هم مقلدون فيها ، والكلام في هذه المسائل وليسوا بأهل نظر فيها ، ولا اجتهاد ، ولا وصول إلى الحقّ بالحجّة ، وإنّما تعديلهم على التقليد والتسليم والتفويض». ۴
وهذا قريب من الحقّ خصوصا على مباني الشريف المرتضى قدس سرهالّذي توزّعت جميع جهوده بين العقل ومنطق ظواهر القرآن الكريم وصريح الظواهر، فما يحمله أصحاب الحديث من الجمود على النصوص من غير أن يشهدوا العقل وقرائنه ، وخير دليل على ما يقوله الشريف المرتضى قدس سره:
«إنّ الصحيح من المذهب اعتبار الرؤية في الشهور كلّها دون العدد، وأنّ شهر رمضان كغيره من الشهور في أنّه يجوز أن يكون تامّا وناقصا.
ولم يقل بخلاف ذلك من أصحابنا إلاّ شذاذ خالفوا الاُصول وقلّدوا قوما من الغلاة تمسّكوا بأخبار رويت عن أئمتنا عليهم السلام غير صحيحة ولا معتمدة ولا ثابتة . . . » ۵ .
وهذا الاعتقاد في أهل الغلو يتماشى مع مسلك الشريف المرتضى قدس سره ، فإنّ هؤلاء من الثُلة تأخذ بالخبر على علاته من دون تمحيص وتدقيق ، وهو لا يلائم عرض الأخبار على العقل والسِّجالات المنطقية.
1. التفسير والمفسرون للذهبي : ج ۱ ص ۱۵۶ .
2. انظر: التفسير والمفسرون للشيخ محمّد هادي معرفة : ج ۲ ص ۳۰ ـ ۲۹.
3. أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد) : ج ۲ ص ۳۵۱.
4. رسالة في الرد على أصحاب العدد : ص ۱۸ ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثانية) .
5. جوابات المسائل الطبرية : ص ۱۵۷ ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الاُولى ) .