منطوق الأخبار والقضايا العلميّة
واكب الشريف المرتضى قدس سره حضارة زمانه العلميّة ، وجعلها إحدى العوامل في قبول الخبر وردّه ، كما نشاهد ذلك : في خبر ردّ الشمس على المولى أمير المؤمنين عليه السلام الّذي لهجت به الشعراء في مقطوعاتهم، ۱ ووردت به الروايات الكثيرة ، واعتبر ذلك فضيلة ومزية اختصّ بها من بين سائر الصحابة.
فقد روي إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان نائما ورأسه في حجر أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمّا حان وقت صلاة العصر كره أمير المؤمنين عليه السلام أن ينهض لأدائها فيزعج النبيّ صلى الله عليه و آله من نومه ، فلمّا مضى وقتها وانتبه النبيّ صلى الله عليه و آله دعا اللّه تعالى بردّها له فردّها فصلّى عليه السلام في وقتها.
وقد ورد على هذا الخبر بعض الإشكالات الفقهية ، بأنّه عليه السلام كان عاصيا بترك الصلاة، وأجاب الشريف المرتضى قدس سره بجوابين ، وقد دعم الوجه الثاني منهما بمنهجية روائية ، قائلاً : إنّ الصلاة لم تفته بمضي جميع وقتها ، وإنّما فاته ما فيه الفضل والمزية من أوّل وقتها.
يقول الشريف المرتضى قدس سره: « ويقوي هذا الوجه شيئان:
أحدهما: الرواية الاُخرى ؛ لأنّ قوله: «حين تفوته» صريح في أنّ الفوت لم يقع ،
وإنّما قارب وكاد.
والأمر الآخر: قوله: «وقد دنت للمغرب» يعني الشمس ، وهذا أيضا يقتضي أنّها لم تغرب ، وإنّما دنت للغروب». ۲
بهذه المنهجية الروائية استطاع الشريف المرتضى قدس سره أن يصحح الجواب الثاني، ولكن الأمر والإشكال لا تنختم بهذا المقدار ، وهناك بعض الأسئلة العلميّة تتبادر إلى الذهن في هذا الباب ، وتترسخ بمرور تطوّر الحضارة والتقدّم الفضائي ، يقول الشريف المرتضى قدس سره : « كيف يصحُّ ردّ الشمس وأصحاب الهيئة والفلك يقولون : إنّ ذلك محال لاتناله قدرة ؟ !
وهبه كان جائزا على مذاهب أهل الإسلام، أليس لو ردّت الشمس من وقت الغروب إلى وقت الزوال لكان يجب أن يعلم أهل الشرق والغرب بذلك؛ لأنّها تبطئ في الطلوع على بعض البلاد ، فيطول ليلهم على وجه خلاف العادة، ويمتد من نهار قوم آخرين ما لم يكن ممتدّا؟
ولا يجوز أن يخفى على أهل البلاد غروبها ، ثمّ عودها طالعة بعد الغروب، وكانت الأخبار تنتشر بذلك، ويؤرّخ هذا الحادث العظيم في التواريخ، ويكون أبهر وأعظم من الطوفان.
قلت: قد دلّت الدلالة الصحيحة الواضحة على أنّ الفلك وما فيه من شمس وقمر ونجوم غير متحرّك لنفسه ولا طبيعة على مايهذي به القوم، وأنّ اللّه تعالى هو المحرّك له، والمتصرّف باختياره فيه ، وقد استقصينا الحجج على ذلك في كثير من كتبنا ، وليس هذا موضع ذكر.
فأمّا علم أهل الشرق والغرب والسهل والجبل بذلك على ما مضى في السؤال فغير واجب؛ لأنّا لا نحتاج إلى القول بأنّها ردّت من وقت الغروب إلى وقت الزوال
وما يقاربه على ما مضى في السؤال ، بل نقول: إنّ وقت الفضل في صلاة العصر هو ما يلي، بلا فصل زمان أداء المصلّي فرض الظهر أربع ركعات عقيب الزوال ، وكلّ زمان وإن قصر وقل يجاوز هذا الوقت ، فذلك الفضل فائت فيه .
وإذا ردّت الشمس له هذا القدر اليسير الّذي نفرض أنّه مقدار ما يؤدي فيه ركعة واحدة خفى على أهل الشرق والغرب ولم يشعروا به ، بل هو ممّا يجوز أن يخفى على من حضر الحال وشاهدها ، إن لم ينعم النظر والتنقير عنها، فبطل السؤال على جوابنا الثاني المبني على فوت الفضيلة .
فأمّا الجواب الآخر المبني على أنّها كانت فاتت بغروبها للعذر الّذي ذكرناه فالسؤال أيضا باطل عنه؛ لأنّه ليس بين مغيب جميع قرص الشمس في الزمان وبين مغيب بعضها وظهور بعضها إلاّ زمان يسير قصير ، يخفى فيه رجوع الشمس بعد مغيب جميع قرصها إلى ظهور بعضها على كلّ قريب وبعيد .
ولا يفطن إذا لم يعرف سبب ذلك على وجه خارق للعادة ، ومن فطن بأنّ ضوء الشمس غاب، ثمّ عاد بعضه جوّز أن يكون ذلك لغيم أو حائل ». ۳
بهذا المقدار من الوعيالعلميردّ الإشكال الّذيتبادر إلى الذهن معتمدا على بعض الاستظهارات الّتي يقتضيها المقام في وقوع هذه الحادثة الّتي تكون محطّا للنظر.
1. منها ما يقوله السيّد الحميري قدس سرهفي قصيدته المذهبة:
ردّت عليه الشمس لمّا فاتهوقت الصلاة وقد دنت للمغرب
2. أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج ۲ ص ۳۴۱ .
3. أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج ۲ ص ۳۴۲.