اللغة والاُسس الكلامية
اللغة قد تخالف الاُسس الكلامية حتّى أنّه يلزم في بعض الأحيان أنّ الالتزام باللغة قد ينافي المعتقدات العقائدية ؛ فإنّ ظهور الكلمة قد يستبطن شيء ، وما تدلّ عليه الروايات شيء آخر قد يكون عامّاً أو خاصّاً ، فلابدَّ على الباحث من تحرير اللغة والتدقيق في الأدلّة الاعتقادية ، ورؤية مدى سعتها وضيقها وعمومها وخصوصها.
وهذا ما نشهده في مسألة البداء وحقيقته ، فقد سئل الشريف المرتضى قدس سره عن إطلاق لفظ « البداء » على اللّه تعالى؟
وهل هو لفظ له معنى مطابق للحقّ ، أم لا يجوز إطلاق هذه اللفظة على حال؟
ويحدد الشريف المرتضى قدس سره معنى اللفظة لغوياً ثمّ كلامياً ، ويذكر تأويل المتكلّمين لذلك ، ويقول: أمّا «البداء» في لغة العرب: هو الظهور، من قولهم: بدا الشيء إذا ظهر وبان.
والمتكلّمون تعارفوا فيما بينهم أن يسمّوا ما يقتضي هذا البداء باسمه، فقالوا: إذا أمر اللّه تعالى بالشيء في وقت مخصوص على وجه معين بمكلف واحد، ثمّ نهى عنه على هذه الوجوه كلّها، فهو بداء ؛ لأنّه يدلّ عليه من حيث لم تظهر أمر لم يكن ظاهرا أمّا جاز أن يطابق المنهي أمر بهذه الطائفة.
وفرّقوا بين النسخ والبداء باختلاف الوقتين في الناسخ والمنسوخ.
والبداء على ما حدّدناه لايجوز على اللّه تعالى ؛ لأنّه عالم بنفسه، لايجوز له أن يتجدّد كونه عالما، ولا أن يظهر له من المعلومات مالم يكن ظاهرا.
ولهذا قالوا: إذا كان البداء لايجوز عليه لم يجز أيضا عليه ما يدلّ على البداء، أو يقتضيه من النهي عن نفس ما اُمر به على وجهه في وقته، والمأمور والمنهي واحد.
وقد وردت أخبار آحاد لاتوجب علما، ولا تقتضي قطعا، بإضافة البداء إلى اللّه تعالى، وحملوها محققو أصحابنا على أنّ المراد بلفظة البداء فيها النسخ للشرائع، ولا خلاف بين العلماء في جواز النسخ للشرائع.
وبقي أن نبين هل لفظة «البداء» إذا حملت على معنى النسخ حقيقة أو مستعارة؟
ويمكن أن ينصّ أنّها حقيقة في النسخ غير المستعارة ؛ لأنّ البداء إذا كان في اللغة العربية اسما للظهور.
وإذا سمّينا من ظهر له من المعلومات ما لم يكن ظاهرا، حتّى اقتضى ذلك أن يأمر بنفس ما نهى عنه، أو ينهي عن نفسه ما أمر به، أنّه قد بدا، لم يمتنع أن يسمّي الأمر بعد النهي والحظر بعد الإباحة على سبيل التدريج ؛ فإنّه بداء له ؛ لأنّه ظهر من الأمر ما لم يكن ظاهرا، وبدأ ما لم يكن بائنا، بمعنى البداء الّذي هو الظهور والبروز حاصل في الأمرين.
فما المانع على مقتضى الاشتقاق أن يسمّي الأمرين بداءً ؛ لأنّ فيهما معا ظهور أمر لم يكن ظاهرا.
فإن قيل: هذا إنّما يسوغ إذا أطلق لفظة «البداء» ولم تضف، فأمّا إذا اُضيفت وقيل: «بدا له في كذا» فلايليق إلاّ بما ذكرناه دون ما خرجتموه ؛ لأنّ اطّلاع من أمر بعد نهي، أو نهي بعد أمر على أمر ماكان مطلقا خصّه، فلايتعدّى إلى غيره، فيجوز أن يقال على سبيل التخصيص: بدا له.
وليس كذلك النسخ ؛ لأنّ الأمر وإن كان متجدّدا بعد النهي، وكذلك الحظر بعد الإباحة، فذلك ممّا لايقتضي الإضافة على سبيل التخصيص ؛ لأنّ الأمر المتجدّد ظاهر الأمر، ولكلّ سامع له ومخاطب به.
قلنا: هذا فرق ضعيف ؛ لأنّه قد يجوز أن يضاف من البداء الّذي هو الظهور ما شارك فيه غيره، ولا يمنع مشاركته في أنّ ذلك بأدلّة من إضافته إلى الأمر.
ألا ترى أنّه قد يجوز أن يظهر لي ولغيري من حسن الفعل أو قبحه ما لم يكن ظاهرا، فأمر بعد نهي أو نهي بعد أمر، فدلّ أنّه قد بدا له ويضاف إليه.
وإن شاركه في أنّه ظاهر له غيره، فالمشاركة ليس تنفي هذه الإضافة، ويجوز له أن يكون القوي بهذه الاضافة، وأنّ الأصل في ظهور هذا الأمر هو الفاعل له، دون كلّ من سمعه ؛ لأنّهم وإن اشتركوا في العلم به عند ظهوره، فالأصل في ظهوره هو الفاعل له، فيقوم الإضافة لذلك.
وليس ينبغي أن ينكر هذا التخريج ؛ لأنّ أهل اللغة ما وافقونا على أنّ البداء لا يكون إلاّ في الموضع الّذي ذكره بعض المتكلّمين، وشرط بتلك الشرائط المشهورة .
بل قال أهل اللغة : إنّ البداء هو الظهور، ولم يزيدوا على ذلك، والمتكلّمون قصروه على موضع بحسب ما اختاروه ؛ لأنّ معنى البداء الّذي هو الظهور، فيجوز لغيرهم أن يعديه إلى موضع آخر فيه أيضا معنى الظهور في اللغة لاقصر عليه ذلك.
ثمّ لو سلمنا لخصوص اللغة أنّ لفظ البداء يختصّ حقيقة بما ذكروه، جاز أن يستعار في غيره ، وهو النسخ ؛ لأنّ فيه معنى الظهور على كلّ حال.
وقد بان بهذه الجملة جميع ما يحتاج في هذه المسألة. ۱