259
المناهج الروائية عند شريف المرتضي

الموضع الرابع

كان للشريف المرتضى قدس سره اعتناءخاص بآراءالمؤرخ الكبير محمّد بن جرير الطبريوتفسيره جامع البيان ، فقد نقل عنه عدّة آراء تفسيرية وضمّنها بالشرح والتعليق والدراسة ، ونشهد ذلك كثيرا في إشكالات تنزيه الأنبياء عليهم السلام ، فقد روى بإسناده إلى أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله : إنّ النار تقول: هل من مزيد؟ إذ اُلقي فيها أهلها حتّى يضع الربّ تعالى قدمه فيها، وتقول: قط قط، فحينئذ تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض.
وقد روى مثل ذلك عن أنس بن مالك. ۱
واعتبر هذا الخبر من الأخبار الّتي حمل في طيّاته نوعا من الغموض والإبهام ، ووقع موقع السؤال والاستفسار؟
ويردّ الشريف المرتضى قدس سره الخبر بشدة ، وإن كان في آخر المطاف يوجّه ذلك بصورة قريبة يحتملها اللسان العربي الأصيل ، فهو يقول بهذا الصدد: « لا شبهة في أنّ كلّ خبر اقتضى ما تنفيه أدلّة العقول فهو باطل مردود، إلاّ أن يكون له تأويل سائغ غير متعسّف، فيجوز أن يكون صحيحا، ومعناه مطابقا للأدلّة.
وقد دلّت العقول ومحكم القرآن والصحيح من السنّة على أنّ اللّه تعالى ليس بذي جوارح، ولا يشبه شيئا من المخلوقات، وكلّ خبر ينافي ما ذكرناه وجب أن يكون إمّا مردودا أو محمولاً على ما يطابق ما ذكرنا من الأدلّة، وخبر القدم يقتضي ظاهره التشبيه المحض، فكيف يكون مقبولاً ؟ !
وقد قال قوم : إنّه لا يمتنع أن يريد بذكر القدم القوم الّذين قدّمهم لها، وأخبر أنّهم يدخلون إليها ممّن استحقّها بأعماله » . ۲
ويقرب من هذا البحث المنهجي ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «إنّ الميت ليعذب ببكاء الحي عليه » وما شابه ذلك من الأخبار.
ويتبع الشريف المرتضى قدس سره نفس المنهجية السابقة في نقد الخبر وتمحيصه ، ويقول بهذا الصدد: « هذا الخبر منكر الظاهر ؛ لأنّه يقتضي إضافة الظلم إلى اللّه تعالى، وقد نزّهت أدلّة العقول الّتي لا يدخلها الاحتمال والاتّساع والمجاز اللّه تعالى من الظلم وكلّ قبيح.
وقد نزّه اللّه تعالى نفسه بمحكم القول مضى ذلك فقال ـ جلّ وعزّ ـ : «وَ لاَ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى »
. ۳ ولابدَّ من أن نصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلّة إلى ما يطابقها إن أمكن، أو نردّه ونبطله.
وقد روي عن ابن عبّاس في هذا الخبر أنّه قال: وَهَل ابن عمر، إنّما مرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله على قبر يهودي أهله يبكون عليه ، فقال: إنّهم ليبكون عليه وإنّه ليعذّب » . ۴
وقد روي إنكار هذا الخبر عن عائشة أيضا، وأنّها قالت لما خبّرت بروايته، وَهَل أبو عبدالرحمن كما وَهَل يوم قليب بدر، إنّما قال صلى الله عليه و آله : إنّ أهل الميّت ليبكون عليه، وإنّه ليعذّب بجرمه. ۵
فهذا الخبر مردود ومطعون عليه كما ترى .
ومعنى قولهما: وَهَل: أي ذهب وهمه إلى غير الصواب، يقال: وهلت إلى الشيء أو هل وهلاً: إذا ذهب وهمك إليه . وقد وهلت عنه أو هل وهلاً: إذا نسيته وغلطت فيه ، ووهل الرجل يوهل وهلاً: إذا فزع ، والوهل: الفزع.
وموضع وهله في ذكر القليب أنّه روي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وقف على قليب بدر ، فقال: هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا ؟ ثمّ قال : إنّهم ليسمعوا ما أقول ، فأنكر ذلك عليه.
وقيل : إنّما قال صلى الله عليه و آله : إنّهم الآن ليعلمون إنّ الّذي كنت أقول لهم هو الحقّ. واستشهد بقوله تعالى: «إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى» . ۶
ويمكن في الخبر إن كان صحيحا وجوه من التأويل.... ۷
ويتوسّع الشريف المرتضى قدس سره بمنهجيته في الخبر المروي عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «إنّ قلوب
بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء»
وما ظاهاه من الأخبار ، فهو يقول قدس سره: «ما تأويل هذه الأخبار على ما يطابق التوحيد وينفي التشبيه؟ أو ليس من مذهبكم أنّ الأخبار الّتي يخالف ظاهرها الاُصول ولا تطابق العقول لا يجب ردّها والقطع على كذب رواتها إلاّ بعد ألاّ يكون لها في اللغة مخرج ولا تأويل؟
وإن كان لها ذلك فباستكراه أو تعسف ، ولستم ممّن يقول ذلك في مثل هذه الأخبار فما تأويلها؟ . ۸
يقول الشريف المرتضى قدس سره مجيبا عن ذلك : « قلنا: لمن تكلّم في تأويل هذه الأخبار ولم يدفعها لأدلّة العقول» ۹ ثمّ بعد توجيهات عديدة للخبر ، يقول: «وفي هذه الأخبار وجه آخر وهو أوضح من الوجه الأوّل ، وأشبه بمذهب العرب وتصرف ملاحن كلامها». ۱۰
فجعل ملاحن كلام العرب هو المقياس في معرفة الخبر ، والألطف من هذا ، يقول بعد توجيه الخبر: «وعلى هذا المعنى يتأوّل المحقّقون قوله تعالى . . . ». ۱۱
فمن طريق ملاحن كلام العرب يعرف الخبر ، ومن طريق معرفة الخبر يتأوّل المحقّقون كلام اللّه تعالى.
وقد يتبادر إلى الذهن أنّه بعد منافاة الخبر لصريح العقل ، وماهي الفائدة في ذكر هذه الوجوه بهذا المقدار الّذي قد يصل إلى عشرة ؟ وما هذا الرد والبدل في داخل هذه الأجوبة؟
يقول الشريف المرتضى قدس سره في ذلك: «وهذا التأويل وإن كان دون ما تقدّمه
فالكلام يحتمله ، ولابدَّ من ذكر القوي والضعيف إذا كان في الكلام أدنى احتمال». ۱۲
ينطلق الشريف المرتضى قدس سره بأنّ الخبر لايمكن التفريط به ، ولابدَّ أن يتمحّل له من الأجوبة بالمقدار الكافي.
وسيأتي ما يوضّح الإجابة عن هذا الإشكال في بحوث لاحقة إن شاء اللّه تعالى.
وفي خاتمة بحث تنزيه النبيّ صلى الله عليه و آله ، يقول الشريف المرتضى قدس سره: « واعلم إنّ لهذه الأخبار المضافة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله ممّا يقتضي ظاهرها تشبيها للّه تعالى بخلقه، أو جورا له في حكمه، أو إبطالاً لأصل عقليّ، نظائر كثيرة، وإن كانت لاتجري في الشهرة مجرى ما ذكرناه، ومتى تقصّينا الكلام على جميع ذلك طال الكتاب جدّا وخرج عن الغرض المقصود به ؛ لأنّا شرطنا أن نتكلّم ولا نتأوّل فيما يضاف إلى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي إلاّ على أنّه من الكتاب، أو خبر معلوم، أو مشهور يجري في شهرته مجرى المعلوم، وفيما ذكرناه بلاغ وكفاية ». ۱۳

1. تفسير الطبري : ج ۲۶ ص ۱۰۶ .

2. تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص ۲۰۳.

3. الأنعام: ۱۶۴ .

4. مسند أحمد بن حنبل: ج ۶ ص ۲۸۱ .

5. المصنّف لابن أبي شيبة: ج ۳ ص ۳۹۲ .

6. النمل : ۸۰ .

7. تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص ۲۰۳.

8. أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج ۱ ص ۳۱۸.

9. تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام : ص ۲۰۵.

10. المصدر السابق : ص ۲۰۷.

11. المصدر السابق.

12. تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص ۲۰۷ ، أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج ۱ ص ۳۱۸ .

13. تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص ۲۱۳.


المناهج الروائية عند شريف المرتضي
258
  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند شريف المرتضي
    سایر پدیدآورندگان :
    وسام الخطاوی
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 3226
صفحه از 358
پرینت  ارسال به