الموضع الثالث
محنة نبي اللّه أيوب عليه السلام كبيرة سواء كانت في القرآن الكريم أو السنّة الشريفة أو كتب التاريخ ، وفي هذا المناخ الساخن تتفتح قريحة القصصي لتفعيل هذا الجو ، سواء كان بحقّ أو باطل ، حتّى أنّه قد يريد إسداء الفضيلة فيتخبط في الرذيلة.
قال اللّه تعالى: «وَ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُو أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنتَ أَرْحَمُ الرَّ حِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُو فَكَشَفْنَا مَا بِهِى مِن ضُرٍّ وَ ءَاتَيْنَـهُ أَهْلَهُو وَ مِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَ ذِكْرَى لِلْعَـبِدِينَ» . ۱
وهناك عدّة روايات حول هذه الآيات يضع الشريف المرتضى قدس سره ، إبهام التشكيك على جملة كبيرة منها ، ويقول بهذا الصدد: «فأمّا ما روي في هذا الباب عن جهلة المفسّرين فممّا لا يلتفت إلى مثله ؛ لأنّ هؤلاء لا يزالون يضيفون إلى ربّهم تعالى وإلى رسله عليهم السلام كلّ قبيح ومنكر ويقذفونهم بكلّ عظيم، وفي روايتهم هذه السخيفة ما إذا تأمّله المتأمّل علم أنّه موضوع باطل مصنوع ؛ لأنّهم رووا أنّ اللّه تعالى سلّط
إبليس على مال أيّوب عليه السلام وغنمه وأهله، فلمّا أهلكهم ودمّر عليهم، ورأى من صبره عليه السلام وتماسكه، قال إبليس لربّه : يا ربّ، إنّ أيّوب قد علم أنّك ستخلف عليه ماله وولده فسلّطني على جسده، فقال تعالى: قد سلّطتك على جسده كلّه إلاّ قلبه وبصره .
قال: فأتاه فنفخه من لدن قرنه إلى قدمه ، فصار قرحة واحدة، فقذف على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف الدوابّ على جسده . . . إلى شرح طويل نصون كتابنا عن ذكر تفصيله.
فمن يقبل عقله هذا الجهل والكفر كيف يوثّق بروايته ؟ ! ومن لا يعلم أنّ اللّه تعالى لايسلّط إبليس على خلقه، وأنّ إبليس لايقدر على أن يقرح الأجساد ، ولا أن يفعل الأمراض كيف يعتمد على روايته؟!
فأمّا هذه الأمراض العظيمة النازلة بأيّوب عليه السلام فلم تكن إلاّ اختبارا وامتحانا، وتعريضا للثواب بالصبر عليها، والعوض العظيم النفيس في مقابلتها، وهذه سنّة اللّه تعالى في أصفيائه وأوليائه عليهم السلام .
فقد روي عن الرسول صلى الله عليه و آله أنّه قال وقد سئل: أيّ الناس أشدّ بلاءً؟ فقال: «الأنبياء ، ثمّ الصالحون ، ثمّ الأمثل من الناس » ، فظهر من صبره عليه السلام على محنته وتماسكه ما صار به إلى الآن مثلاً، حتّى روي : إنّه كان في خلال ذلك كلّه صابرا شاكرا محتسبا ناطقا بما له فيه من المنفعة والفائدة، وأنّه ما سمعت له شكوى ولا تفوّه بتضجّر ولا تبرّم، فعوّضه اللّه تعالى مع نعيم الآخرة العظيم الدائم أن ردّ عليه ماله وأهله ، وضاعف عددهم في قوله تعالى: «وَ ءَاتَيْنَـهُ أَهْلَهُو وَ مِثْلَهُم مَّعَهُمْ» ، وفي سورة ص «وَ وَهَبْنَا لَهُو أَهْلَهُو وَ مِثْلَهُم مَّعَهُمْ» ، ثمّ مسح ما به من العلل وشفاه وعافاه ، وأمره على ماوردت به الرواية : بأن اركض برجلك الأرض ، فظهرت له عين فاغتسل منها، فتساقط ما كان على جسده من الداء ، قال اللّه تعالى: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـذَا مُغْتَسَلُم بَارِدٌ وَ شَرَابٌ» والركض هو التحريك، ومنه: ركضت الدابّة.
فإن قيل: أفتصحّحون ما روي من أنّ الجذام أصابه حتّى تساقطت أعضاؤه؟
قلنا: إنّ العلل المستقذرة الّتي تنفّر من رآها وتوحشه، كالبرص والجذام فلايجوز شيء منها على الأنبياء عليهم السلام ؛ لما تقدّم ذكره في صدر هذا الكتاب ؛ لأنّ النفور ليس بواقف على الاُمور القبيحة، بل قد يكون من الحسن والقبيح معا.
وليس ينكر أن تكون أمراض أيّوب عليه السلام وأوجاعه، ومحنته في جسمه ، ثمّ في أهله وماله بلغت مبلغا عظيما يزيد في الغمّ والألم على ما ينال المجذوم، وليس ننكر تزايد الألم فيه عليه السلام ، وإنّما ننكر ما اقتضى التنفير». ۲
من هذا البحث نستقصي منهجين ، يمكن أن يصيرا مسلكا في معيار الرواية:
۱ . لايمكن الاعتماد على كلّ آراء أهل التفسير ؛ لأنّ بعضها لا يقبله العقل ، وإن وردت به الرواية.
۲ . إنّ بعض العلل المستقذرة لايجوز شيء منها على الأنبياء عليهم السلام ، وإن وردت به الرواية. فنزاهة الأنبياء عليهم السلام لايمكن الخدشة في مضمونها ، ولا يمكن للشيطان أن يضعهم تحت الفتنة الّتي تنال من نزاهتهم وطهارتهم ، فما ورد من هذا القبيل عن أي أحد سواء كانت رواية أو دراية لابدَّ من طرحه أو رفع بعض إبهاماته حتّى لا يصادم صريح العقل والنقل.
ومن هذا المنطق التنزيهي في أبعاد شخصيات الأنبياء عليهم السلام يرفع الشريف المرتضى قدس سرهالتهافتات الاُخرى عن شخصية نبي اللّه موسى عليه السلام عن تبرئته بهتك عورته ، حيث روي في تفسير قوله تعالى: «يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَ كَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا» . ۳
فقد رموا بنو إسرائيل موسى عليه السلام بأنّه آدَر ۴ ، وبأنّه أبرص حتّى أنّه عليه السلام ألقى ثيابه
على صخرة ليغتسل ، فأمر اللّه تعالى تلك الصخرة بأن تسير فسارت ، وبقي موسى عليه السلام مجردا يدور على محافل بني إسرائيل، حتّى رأوه ، وعلموا أنّه لاعاهة به.
هذا النوع من التفسير الوضيع لحالات الأنبياء عليهم السلام مع كمال نزاهتهم وطهارتهم أدّى بالشريف المرتضى قدس سره أن يقف أمامه ، ويقول: «ليس يجوز أن يفعل اللّه تعالى بنبيه عليه السلام ماذكروه من هتك العورة ؛ ليبرئه من عاهة اُخرى ، فإنّه تعالى قادر على أن ينزهه ممّا قذفوه به على وجه لايلحقه معه فضيحة اُخرى ، وليس يرمي بذلك أنبياء اللّه تعالى من يعرف أقدارهم». ۵
ثمّ يأتي الشريف المرتضى قدس سرهبالرواية الصحيحة الّتي توافق مقتضى العقول ونزاهة الأنبياء عليهم السلام ، وهي: «إنّ بني إسرائيل لمّا مات هارون عليه السلام قذفوا موسى بأنّه قتل هارون ؛ لأنّهم كانوا إلى هارون عليه السلام أميل ، فبرأه اللّه تعالى من ذلك ، بأن أمر الملائكة حتّى حملت هارون عليه السلام ميتا ، فمرّت به على محافل بني إسرائيل ناطقة بموته ، ومبرئة لموسى عليه السلام من قتله». ۶
ويضفي الشريف المرتضى قدس سره القداسة على هذه الرواية ، مضافا إلى صحّة جريها العقلي طبقا على ما عليه نزاهة الأنبياء عليهم السلام ، فيقول: «وهذا الوجه يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام ». ۷
وكذلك البحث بعينه ممّا روي في نبي اللّه داوود عليه السلام وتنزيهه عن المعصية ، حيث ورد في تفسير قوله تعالى:
«وَ هَلْ أَتَـلـكَ نَبَؤُاْ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَ اهْدِنَآ
إِلَى سَوَآءِ الصِّرَ طِ * إِنَّ هَـذَآ أَخِي لَهُو تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَ حِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَ عَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَـلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِى وَ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَـآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ عَمِلُواْ الصَّــلِحَـتِ وَ قَلِيلٌ مَّا هُمْ وَ ظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّـهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُو وَ خَرَّ رَاكِعًا وَ أَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُو ذَ لِكَ وَ إِنَّ لَهُو عِندَنَا لَزُلْفَى وَ حُسْنَ مَـئابٍ» . ۸
فقد روى أكثر المفسّرين أنّ داوود عليه السلام قال : ربّ قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما وددت أنّك أعطيتني مثله، فقال اللّه تعالى: إنّي ابتليتهم بما لم أبتلك بمثله، وإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم وأعطيتك كما أعطيتهم؟
قال: نعم، فقال اللّه ـ جلّ وعزّ ـ له: فاعمل حتّى أرى بلاءك، فكان ماشاء اللّه أن يكون، وطال عليه ذلك حتّى كاد ينساه. فبينا هو في محرابه ، إذ وقعت عليه حمامة، فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوّة ۹ المحراب، فذهب ليأخذها فطارت من الكوّة ، فأطلع من الكوّة فإذا امرأة تغتسل فهواها وهمّ بتزويجها ، وكان لها بعل يقال له: «اُوريا »، فبعث به إلى بعض السرايا ، وأمر بتقديمه أمام التابوت الّذي فيه السكينة ، وكان غرضه أن يقتل فيتزوّج بامرأته ، فأرسل اللّه تعالى إليه المَلكين في صورة خصمين ليبكتاه على خطيئته ، وكنيا عن النساء بالنعاج. ۱۰
ويعلّق الشريف المرتضى قدس سره بعدّة ملاحظات منهجية على هذا الخبر:
۱ . يمكن تفسير الآية بما لا دلالة في شيء منها على وقع الخطأ من داوود عليه السلام .
۲ . الرواية ساقطة مردودة ؛ لتضمنها خلاف ما تقتضيه العقول في الأنبياء عليهم السلام .
۳ . إنّ رواتها مطعون فيهم، ۱۱ وعليه لايمكن وضع بصمات الصحّة على هذه الأخبار.
ونفس الحديث ينطلق منه الشريف المرتضى قدس سره لتوضيح مسار الآية الكريمة الواردة في سليمان عليه السلام في قوله تعالى: «وَ وَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَـنَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُو أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّـفِنَـتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحَام بِالسُّوقِ وَ الْأَعْنَاقِ» ۱۲ فقد دلّت هذه الآيات على أنّ مشاهدة الخيل ألهته وشغلته عن ذكر ربّه، حتّى روي أنّ الصلاة فاتته.
وقيل: إنّها صلاة العصر، ثمّ إنّه عرقب الخيل ، وقطع سوقها وأعناقها غيظا عليها، وهذا كلّه فعل يقتضي ظاهره القبح.
يقول الشريف المرتضى قدس سره : « أمّا ظاهر الآية فلا يدلّ على إضافة قبيح إلى سليمان عليه السلام ، والرواية إذا كانت مخالفة لما تقتضيه الأدلّة لايلتفت إليها لو كانت قويّة صحيحة ظاهرة، فكيف إذا كانت ضعيفة واهية ؟ !
والّذي يدلّ على ما ذكرناه على سبيل الجملة : إنّ اللّه تعالى ابتدأ الآية بمدحه وتقريظه والثناء عليه، فقال: «نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُو أَوَّابٌ» ، وليس يجوز أن يثني عليه بهذا الثناء ، ثمّ يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه ؟ ! وأنّه تلهّى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة، والّذي يقتضيه الظاهر : أنّ حبّه للخيل وشغفه بها كان بإذن ربّه وبأمره وتذكيره إياه ؛ لأنّ اللّه تعالى قد أمرنا بإرباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء . . . ». ۱۳
وكذلك الإشكال الآخر الّذي في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِى جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ» . ۱۴
فقد روي في تفسير هذه الآية : أنّ جنّيا كان اسمه : « صخرا » تمثّل على صورة
سليمان عليه السلام وجلس على سريره، وأنّه أخذ خاتمه الّذي فيه النبّوة، فألقاه في البحر، فذهبت نبوّته ، وأنكره قومه حتّى عاد إليه من بطن السمكة؟
يقول الشريف المرتضى قدس سره معلّقا على الخبر : « أمّا ما رواه القصّاص الجهّال في هذا الباب فليس ممّا يذهب على عاقل بطلانه، وأنّ مثله لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام ، وأنّ النبوّة لاتكون في خاتم، ولا يسلبها النبيّ عليه السلام ، ولا تنزع عنه، وأنّ اللّه تعالى لا يمكّن الجنّي من التمثيل بصورة النبيّ عليه السلام ولا غير ذلك ممّا افتروا به على النبيّ عليه السلام ، وإنّما الكلام على ما يقتضيه ظاهر القرآن، وليس في الظاهر أكثر من أنّ جسدا اُلقي على كرسيّه على سبيل الفتنة له وهي الاختبار والامتحان، مثل قوله تعالى: «الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَـذِبِينَ» ، والكلام في ذلك الجسد ما هو إنّما يرجع فيه إلى الرواية الصحيحة الّتي لا تقتضي إضافة قبيح إليه تعالى». ۱۵
وهكذا يصرّح الشريف المرتضى قدس سره في موضع آخر قائلاً : «وأمّا الأحاديث المروية في هذا الباب فلا يلتفت إليها من حيث تضمّنت ما قد نزهت العقول الرسول عليهم السلام عنه ، هذا لو لم تكن في أنفسها مطعونة مضعفة عند أصحاب الحديث بما يستغني عن ذكره ». ۱۶
فجميع هذه النصوص صبّت مصبّا واحدا ، وسقيت من جدول واحد ، وهو أنّ المبنى في الجميع هو : المناط العقلي في تقييم الرواية والخبر.
وقريب من هذا المنهج ما جاء حول قوله تعالى: «وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـلـهُ» . ۱۷
فقد عوتب النبيّ صلى الله عليه و آله من حيث أضمر ما كان ينبغي أن يظهره ، وراقب من لا يجب أن يراقبه.
ووجّه الشريف المرتضى قدس سره الآية الكريمة بجواب دقيق يقول فيه: « وجه هذه الآية معروف، وهو أنّ اللّه تعالى لمّا أراد نسخ ما كانت عليه الجاهليّة من تحريم نكاح زوجة الدعيّ، والدعيّ هو الّذي كان أحدهم يجتبيه ويربّيه ويضيفه إلى نفسه على طريق النبوّة، وكان من عادتهم أن يحرّموا على أنفسهم نكاح أزواج أدعيائهم كما يحرّمون نكاح أزواج أبنائهم، فأوحى اللّه تعالى إلى نبيّه صلى الله عليه و آله أنّ زيد بن حارثة ـ وهو دعيّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ـ سيأتيه مطلّقا زوجته ، وأمره أن يتزوّجها بعد فراق زيد ؛ لها ليكون ذلك ناسخا لسنّة الجاهليّة الّتي تقدّم ذكرها.
فلمّا حضر زيد مخاصما زوجته عازما على طلاقها، أشفق الرسول صلى الله عليه و آله من أن يمسك عن وعظه وتذكيره، لاسيّما وقد كان يتصرّف على أمره وتدبيره، فرجف المنافقون به صلى الله عليه و آله إذا تزوّج المرأة ، ويقذفونه بما قد نزّهه اللّه تعالى عنه، فقال له: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» تبرّؤا ممّا ذكرناه وتنزّها، وأخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعد طلاقه لها ؛ لينتهي إلى أمر اللّه تعالى فيها.
ويشهد بصحّة هذا التأويل قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَـكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَ جِ أَدْعِيَآلـءِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً » فدلّ على أنّ العلّة في أمره بنكاحها ما ذكرناه من نسخ السنّة المتقدّمة ! ۱۸
وهناك رواية اُخرى خدشت في تنزيه النبيّ صلى الله عليه و آله وهي: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله رأى في بعض الأحوال زينب بنت جحش فهواها، فلمّا أن حضر زيد لطلاقها أخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعده وهواه لها.
يقول الشريف المرتضى قدس سره معلّقا على هذا الخبر الآخر: أو ليس الشهوة عندكم
الّتي قد تكون عشقا على بعض الوجوه من فعل اللّه تعالى وأنّ العباد لا يقدرون عليها؟ وعلى هذا الوجه لا يمكنكم إنكار ما تضمّنه السؤال؟
ويجيب عن ذلك : «لم ننكر ما وردت به هذه الرواية الخبيثة من جهة أنَّ الشهوة تتعلّق بفعل العباد ، وأنّها معصية مليحة، بل من جهة أنّ عشق الأنبياء عليهم السلام لمَن ليس يحلّ لهم من النساء منفّر عنهم ، وحاط من مرتبتهم ومنزلتهم، وهذا ممّا لاشبهة فيه، وليس كلّ شيء يجب أن يجتنبه الأنبياء عليهم السلام مقصورا على أفعالهم ، ألا ترى أنّ اللّه تعالى قد جنّبهم الفظاظة والغلظة والعجلة، وكلّ ذلك ليس من فعلهم، وأوجبنا أيضا أن يجنّبوا الأمراض المنفّرة والخلق المشينة كالجذام والبرص وتفاوت الصور واضطرابها، وكلّ ذلك ليس من مقدورهم ولا فعلهم؟
وكيف يذهب على عاقل أنّ عشق الرجل زوجة غيره منفّر عنه معدود في جملة معائبه ومثالبه ؟ !
ونحن نعلم أنّه لو عرف بهذه الحال بعض الاُمناء أو الشهود لكان ذلك قادحا في عدالته، وحاطّا من منزلته، وما يؤثر في منزلة أحدنا أولى من أن يؤثر في منازل من طهّره اللّه وعصمه وأكمله وأعلى منزلته، وهذا بيّن لمن تدبّر ». ۱۹
1. الأنبياء : ۸۳ ـ ۸۴ .
2. تنزيه الأنبياء والائمة عليهم السلام : ص ۱۱۴ ـ ۱۱۶.
3. الأحزاب : ۶۹.
4. الأُدرَةُ ـ بالضم ـ : نفخة في الخُصية ، يقال : رجل آدَرُ ، بيّن الأدَر (لسان العرب : ج ۱ ص ۹۴-۹۵ «أدر»).
5. تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص ۱۵۱.
6. المصدر السابق.
7. المصدر السابق.
8. ص : ۲۱ ـ ۲۵ .
9. الكَوَّةُ : الخرق في الحائط ، والثقب في البيت ونحوه (لسان العرب : ج ۱۲ ص ۱۹۸ « كوي » ) .
10. تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص ۱۵۳ ـ ۱۵۴ .
11. المصدر السابق : ص ۱۵۴.
12. ص : ۳۰ ـ ۳۳.
13. تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص ۱۵۴.
14. ص : ۳۴.
15. تنزية الأنبياء والأئمة عليهم السلام : ص ۱۸۲.
16. المصدر السابق : ص ۱۶۴ .
17. الأحزاب : ۳۷.
18. تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص ۱۸۴ ـ ۱۸۵.
19. المصدر السابق : ص ۱۸۶ ـ ۱۸۷ .