المناهج المنطقية في المسائل العقائدية
القضايا المنطقية ترفع كثير من الجدليات والإيهامات التشكيكية في البحوث العقائدية الدقيقة ، وهي من أقوى الأدلّة ؛ لأنّ قياساتها معها ، ومن هذا المنطق العلمي يستفيد الشريف المرتضى قدس سره عدّة معادلات عقائدية في دعم الأخبار. ونحن نشير إلى بعضها ، وكيفية تشكيل قياساتها:
منها ما تعلّق بنصرة الإجماع بقوله عليه السلام : « لا تجتمع اُمتي على خطأ » الّذي استفيد منه تصحيح الموقف العقائدي لجماعة أهل السنّة في بعض موافقها.
والشريف المرتضى قدس سره يتطرّق إلى مسألة الإجماع بصورة مفصلة ، ويفند آراء
القوم في ذلك ، مدعياً انّ هذا الخبر لا شبهة في فساد التعلّق به . وذلك :
أولاً: أنّه من أخبار الآحاد الّتي لا توجب الظن، ولا توجب علماً ، ولا عملاً ، فلا يسوغ القطع بمثلها.
ثمّ يترقّى الشريف المرتضى قدس سره في البحث ويدعي أنّه لا خلاف أنّ نقل هذا الخبر من طريق الآحاد.
ثانياً: أنّ أكثر ما يتعلّق به الخصم في تصحيح هذا الخبر هو أمران :
الأمر الأوّل: هو تقبل الاُمة له.
الأمر الثاني: تركهم الرد على راويه.
ولكن الشريف المرتضى قدس سره يرد على الأمرين قائلاً: «وليس كلّ الاُمة تقبله، ولو تقبلته أيضا لم يكن في تقبلها دلالة بأنّ الخطأ ودخول الشبهة جائزان عليها وكلامنا في ذلك». ۱
إلى هنا نرى الشريف المرتضى قدس سره يبحث في الخبر جرياً على المتعارف ، ولا نرى سمة الأثر العقلي فيه ، ولكنه يقضي بعد ذلك بقضية استحالة الدور في الخبر بصورة منطقية ، حيث يقول: «وليس يجوز أن يجعل المصحح للخبر إجماع الاُمة الّذي لا نعلم صحّته إلاّ بصحّة الخبر». ۲
فما طرحه ليس إلاّ تصوير استحالة الدور في الخبر ، ثمّ يعرّج على مسألة اُخرى اُصولية عقلية ، وهي أنّ الخبر يحمل في طيّاته إجمالاً مفتقراً إلى البيان ، ويصوّر ذلك الإجمال بعدّة اُمور:
۱ . إذا لاحظنا الكلام في إثبات الخبر نفسه لم يكن فيه دلالة على ما ذهب إليه القوم ؛ لأنّه نفى أن يجتمعوا على خطأ ، ولم يبين ما الخطأ الّذي لا يجتمعون عليه.
۲ . وليس في اللفظ دلالة على نفي كلّ الخطأ ، ولا نفي بعض معين.
ويقول الشريف المرتضى قدس سره نتيجة لهذين الأمرين: «فالخبر إذا كان المجمل المفتقر إلى البيان». ۳
بهذه الصورة المنطقية استطاع أن يضع بصمات التشكيك على هذا الخبر بعدما فنده سنداً.
ولم يقتصر الشريف المرتضى قدس سره على هذا القدر من الاستحالة العقلية ، بل أتى بقضية مانعة الخلو للقسمين معاً بهذه الصورة:
«ليس يخلو قوله: «لا تجتمع اُمتي» أمّا أن يكون عني به:
أ ـ جميع المصدّقين.
ب ـ أو بعضاً منهم، وهم المؤمنون المستحقّون للثواب.
فإن كان الأوّل وجب بظاهر الكلام ألاّ يختصّ أهل كلّ عصر ، بل يشيع في جميع المصدقين إلى قيام الساعة حتّى لا يخرج عنه أحد منهم؛ لأنّ مذهب خصومنا ـ في حمل القول المطلق على عمومه ـ يقتضي ذلك.
وإن جاز لهم حمل الكلام على المصدقين في كلّ عصر كان هذا تخصيصاً بغير حجّة ، ولم يجدوا فرقاً بينهم وبين من حمله على فرقة من أهل كلّ عصر.
وإذا وجب حمله على جميع المصدقين في سائر الأعصار لم يكن دليلاً على ما يذهبون إليه من كون إجماع أهل كلّ عصر وحجّة.
وإن كان على ما ذكرناه ثانيا بطل بمثل ما أبطلنا الأوّل من وجوب حمله على كلّ المؤمنين المستحقّين الثواب في كلّ عصر على سبيل الجمع ، وأنّ من خصص أهل كلّ عصر بتناول القول له كمن خصّ فرقة من أهل العصر». ۴
هذه الصورة المنطقية للإشكال في غاية الأهمية ، إذ القسمة حاصرة عقلية لا تخلو من أمرين لا ثالث لهما.
ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره يورد بعض الإشكالات على هذه الصورة المنطقية ، ويذبّ عنها ، وفي آخر الأمر يذكر الصورة الصحيحة للخبر بقوله قدس سره : «وقد روي معنى هذا الخبر بلفظ آخر وهو: لم يكن اللّه ليجمع اُمتي على ضلال، وهذا صحيح غير مدفوع ، وهو يدلّ على أنّهم لا يختارون الإجماع على الضلال من قبل أنفسهم » . ۵
ونأتي بمثال آخر من المناهج المنطقية في المسائل العقائدية ، وهو أنّ من الاُمور المهمّة في أواخر حياة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلمصلاة الخليفة أبي بكر فعندما اعتلّ النبيّ صلى الله عليه و آله تصدّر أبو بكر للصلاة ، وهذا ما دعا البكرية وجماعة أهل السنّة عموماً ان يجعلوا ذلك أحد الامتيازات المهمّة في حياة الخليفة الأوّل، وقرنوا بين صلاته وإمامته المستقبلية .
وهذا ما أثار حفيظة الطائفة الإمامية أن تقف أمام هكذا تصوّر ، وترى أنّ حقّها قد غبن نتيجة ما تملكه من نصوص واضحة وجليلة قد أنكرت من قبل الرأي العام ، واعتبرت ذلك ظلماً بحقّ الإمام علي عليه السلام وحقّها .
وأكّد الشريف المرتضى قدس سره على أنّ أصحابنا بيّنوا في غير موضع الكلام على خبر الصلاة المنسوبة إلى أبي بكر ودلّوا على أنّه لا نسبة بين الصلاة والإمامة. ويؤكّد الشريف المرتضى قدس سره على أنّ هذا الخبر فيه إشكالان :
۱ . أنّه خبر واحد .
۲ . أنّ الأمر بالصلاة والإذن فيها لأبي بكر وارد من جهة عائشة، وهو أمر ممكن .
ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره يعزز الإشكال الثاني بدليلين:
الدليل الأوّل: أنّه قد ثبت بالرواية قول النبيّ صلى الله عليه و آله ـ لما عرف تقدّم أبي بكر في الصلاة وسمع قراءته في المحراب ـ : «إنكنّ كصويحبات يوسف».
الدليل الثاني: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله خرج متحاملاً من الضعف ، معتمداً على أمير المؤمنين عليه السلام والفضل بن العبّاس ، وعزل أبي بكر عن إقامة الصلاة وتقدّم بنفسه في الصلاة. ۶
وبهذا المقدار يستفيد الشريف المرتضى قدس سره ما أورده أصحابه من الطائفة الإمامية مع بعض النكات ، ويردّ على من أبدى بعض الشبه والإشكالات في البين.
ولكنّه قدس سره في آخر سجاله ـ حول هذا الخبر ـ يطرح قضية عقلية ، تكون بمثابة منهج عقلي متّبع في تفسيراته الروائية ، كما اتّبع ذلك في المثال السابق بهذه الصورة:
لو كانت ولاية الصلاة دالّة على النصّ لم يخل من:
۱ . أن تكون دالّة من حيث كانت تقديماً في الصلاة.
۲ . أو من حيث اختصت مع أنّها تقديم فيها بحال المرض.
فإن دلّت على الوجه الأوّل وجب أن يكون جميع من قدمه الرسول صلى الله عليه و آله في طول حياته للصلاة إماماً للمسلمين ، وقد علمنا أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قد ولى الصلاة جماعة لا يجب شيء من هذا فيهم.
وإن دلّت من الوجه الثاني فالمرض لا تأثير له في إيجاب الإمامة ، ولو دلّ تقديمه في الصلاة في حال المرض على الإمامة لدلّ على مثله التقديم في حال الصحّة . . .. ۷
ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره يؤنّس بعض المقدّمات (خصوصاً الكبرى منها)
ببعض الاُمور ، كتولية اُسامة بن زيد على الجيش ، أو صلاة النبيّ صلى الله عليه و آله خلف عبدالرحمن بن عوف ، مؤكّداً عدم ثبوت ولايتيهما بمثل هذه الاُمور ؛ فإنّ الزعامة والخلافة منصب ربّاني يحتاج إلى جملة من الاُمور والمقدّمات حتّى يستحقّ الشخص إدارة شؤون الاُمة والأخذ بزمام قيادتها ، وهؤلاء فقدوا هذه المواصفات.
وعلى كلّ حال فالمنهج والطريقة الّتي اتّبعها الشريف المرتضى قدس سرهفي هذا الخبر تتلاقى في روحها مع الخبر السابق ، وذلك بأدنى مراجعة.
وعليه نعرف بأنّ الشريف المرتضى قدس سره صاحب مدرسة عقلية ، وذو أساس دقيق مبني على جهود سنوات كبيرة ، استطاع من خلالها أن يضع منهجية صحيحة وثابتة.
وكذلك تشهد المناهج المنطقية في المسائل العقائدية فيما تنقله الطائفة الحقّة الإمامية كبعض النصوص الصريحة الّتي تدلّ على ولاية المولى أمير المؤمنين عليه السلام ، مثل قوله صلى الله عليه و آله : «هذا إمامكم من بعدي» وما ظاهاها من العبارات.
وقد تصدّى القاضي عبدالجبار لها ، ووضع بصمات الاتهام عليها بنحو وآخر ، فذكر قائلاً: «فغير مسلم ولا نقل فيه ، فضلاً أن يدعى فيه التواتر». ۸
واعتبر هذه النقول من الألفاظ غير منقولة ، وإنّما الّذي يصحّ فيه النقل الأخبار الّتي تذكر كخبر غدير خم وغيره.
ثمّ أدعى أنّ الإشكال المهم في هكذا نصوص هو إجمالها وعدم وضوحها ؛ فلذلك يقول: «فمتى لم يعلم مراده صلى الله عليه و آله باضطرار أمكن أن يقال: إنّ هذا القول لا يعمّ الإمامة ؛ لأنّه لا يمتنع أن يريد أنّه إمامكم في الصلاة ، أو الإمامة في العلم ، الّتي هي أجل من الإمامة الّتي تتضمّن الولاية ، وأمكن أن يقال فيه : إنّ هذا القول لا يعمّ الإمامة... فلابدَّ من بيان إذا لم يكن هناك تعارف يحمل الكلام عليه...». ۹
وقد نقل الشريف المرتضى قدس سره عبارة اُخرى عن القاضي عبدالجبار المعتزليقائلاً: «إنّ جميع ما نعتمده من النصوص إذا لم يعلم منه قصد النبيّ صلى الله عليه و آله باضطرار فلابدَّ أن يكون محتملاً». ۱۰
وهكذا يتوسّل بكلّ شيء حتّى يخرج الخبر من وضوحه إلى إجمال وغموض فيه ؛ لعلّه يستطيع أن يسقط الخبر عن اعتباره وحجّيته.
ويحاكمه الشريف المرتضى قدس سره بصورة منطقية لا تأبى التشكيك ، حيث يقول ما مضمونه : إنّ نقل مثل هذه النصوص إمّا من طريق الخصم أو غيرهم ، ولا يستلزم عدم نقل الخصم للخبر سقوطه ، إذ قد ينقله غيرهم ، وهو يكفي في وثاقة الخبر.
ويورد الشريف المرتضى قدس سره عليه ـ كما هو عادته ـ باُسس عقلية ـ : «فليس يخلو الاحتمال الّذي عناه من أن يريد به مالم يمكن القطع فيه على وجه دون وجه... فالنصّ عندنا معزول عنه . . .
وإن أراد بالاحتمال جواز دخول الشبهة وعدم العلم الضروري فهو غلط ؛ لأنّه ليس كلّ ما لم يعلم ضرورة ، وأمكن المبطل صرفه عن ظاهره بالشبهة محتملاً ؛ لأنّه لو كان ما هذه صفته موهوماً بالاحتمال لوجب أن تكون أدلّة العقل كلّها محتملة . . . .
وإن أراد بالاحتمال جواز العدول عن الظاهر ، أو عن الحقيقة على وجه من الوجوه ؛ فإنّ ذلك ممكن في الكلام خاصّة دون أدلّة العقول ، فهذا أيضا مؤدٍ إلى أنّ جميع أدلّة الكتاب والسنّة محتملة». ۱۱
وهذا الّذي نقلناه خلاصة لجوابه المبني على اُسس عقلية رصينة ، تقدّم بعضها في المناهج السابقة، ويأتي بعضها الآخر ، فلم يترك الشريف المرتضى قدس سرهمفرّا للقاضي عبدالجبّار في إدعائه إجمال النصّ ، وعدم وضوحه في الإمامة الكبرى.
ثمّ يتعرّض الشريف المرتضى قدس سره إلى بعض توجيهات أصحابه من الإمامية، ۱۲ ويقول: « وهذا الجواب غير معتمد عندنا ؛ لأنّه مخالف لاُصولنا ، ومبني على أصل نعتقد فساده وبطلانه ».
ثمّ هو يجيب بجواب محصور بين أمرين لا ثالث لهما شبيه بالقسمة الحاصرة العقلية ، قائلاً: «قد وجدنا الاُمة في هذا الخبر المخصوص الّذي تدعيه الشيعة بين قولين:
أحدهما: قول من نحاه وحكم ببطلانه.
والآخر: قول من أثبته وقطع على صحّته.
ووجدنا كلّ من قطع على صحّته لا يفرق في تناوله للإمامة بين ولاية وغيرها ، بل يحكم باستيعابه لجميع الولايات الّتي تدخل تحت الإمامة الشرعية ، ولا يميز بين علم وصلاة وغيرهما ، فالقول بإثبات الخبر مع التخصيص قول خارج عن أقوال الاُمة المستقرّة فوجب إطراحه. ۱۳
وبهذا يتمّ دفع إيهام القاضي عبدالجبّار المعتزلي ، ويفضي ذلك ببعض التوجيهات والردود الجانية الّتي تضمّنها إشكال المستشكل، ويستعين بالظهور القرآني في بعض الآيات ، وكيف فهم منها متشرعة ذلك العصر الظهور والتبادر.
ونؤكّد على بعض المناهج المنطقية في المسائل العقائدية لترسيخ الصور المنطقية ، وهو أنّ المتعارف عليه بين المفسّرين أنّ قوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُو وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَ كِعُونَ » ، ۱۴ نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام ؛ لأنّه وصفه ـ على حدّ قول القاضي عبدالجبّار ـ بصفة لم تثبت إلاّ له ، وهي إيتاء الزكاة في حال الركوع.
وهناك أخبار كثيرة دلّت على أن نزول الآية كان في هذا المورد.
ويرد القاضي عبدالجبّار الخبر بصورة منطقية بهذه الصورة: المراد بالولي في الإمامة لا يخلو من وجهين:
إمّا أن يراد من التولي في باب الدّين.
أو يراد نفاذ الأمر وتنفيذ الحكم.
ولا يجوز أن يراد به الأوّل؛ لأنّ ذلك لا يختصّ بالرسول صلى الله عليه و آله وسلموأمير المؤمنين عليه السلام ؛ لأنّ الواجب تولي كلّ قوم فلا يكون لهذا الاختصاص وجه ، إلاّ أنّ المراد ما ذكرناه. ۱۵
وينطلق الشريف المرتضى قدس سره من جهة اُخرى في الاستدلال بالآية الكريمة بقضية منطقية بهذه الصورة:
۱ . ثبت أنّ المراد بلفظة «وَلِيُّكُمُ» من كان متحقّقاً بتدبيركم ، والقيام باُموركم ، ويجب طاعته عليكم.
۲ . وثبت أنّ المعنى بـ «وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ» أمير المؤمنين عليه السلام
۳ . وفي ثبوت هذين الوصفين دلالة على كونه عليه السلام إماماً لنا. ۱۶
ويمكن تصوير كلام الشريف المرتضى قدس سره بصورة صغرى وكبرى ونتيجة.
ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره يأتي بأدلّة ومناقشات حول الآية ، ولا يتعرّض إلى استدلال القاضي عبدالجبار المعتزلي بخصوص المقطع المتقدّم ، إذ يعتبر أنّ الآية لابدَّ من طرحها على أساس النصوص الواردة ، ولا تنقض بالتشكيكات والإيهامات العقلية ، حتّى أنّه بعد صفحات من بحثه يذكر الأدلّة والوجوه الدالّة على توجّه لفظة «الَّذِينَ ءَامَنُواْ» إلى أمير المؤمنين عليه السلام من إجماع الأمة على اختلافها على توجّه
الخطاب إليه عليه السلام ، وأنّ الخبر ورد بنقل طريقتين مختلفتين من الخاصّة والجمهور وأطبق عليه أهل النقل. ۱۷
من هنا نعرف أنّ البحث مع القاضي عبدالجبار بمقدار معطيات كلامه المتقدّم لا يحمل في طيّاته البحث العقلي ؛ ولذلك أعرض الشريف المرتضى قدس سره أن يدلي بدليله العقلي صراحةً ، وإنّما أشار إليه ضمناً، واستعان بالأدلّة الشرعية النقلية ، وطرحها بطريقة منطقية كما ذكرنا سابقا.
نعم ، لا يترك القاضي عبدالجبار هذا الإشكال يثبت عليه بسهولة ، بل يستدركه بدليل آخر يشبه بصورته الخطابات المنطقية ، وبروحه يرجع إلى التشكيك في الأدلّة النقلية ، بهذه الصورة:
«واعلم أنّ المتعلّق بذلك لا يخلو من أن يتعلّق بظاهره أو باُمور تقارنه.
فإن تعلّق بظاهره فهو غير دالٍ على ما ذكر.
وإن تعلّق بقرينة فيجب أن يبينها ، ولا قرينة في ذلك من إجماع أو خبر مقطوع به». ۱۸
وهذا الاستدلال أنسب بالمقام ، إذ البحث هو قرآني وروائي ، ولا مجال للظهورات العقلية الصرفة البحتة، ومن خلال هذا يتّضح المنهج الّذي توخّاه.
ومن هنا يعرف الشريف المرتضى قدس سره اللغز في هذا العدول ، ولا يعتبره دليلاً ثانيا للقاضي عبدالجبّار حتّى تجعل إطاحة النصّ ممكنه، فهو يقول ـ بعد أن ذكر كلام القاضي السابق ـ : «قد بيّنا كيفية الاستدلال بالآية على النصّ ، ودللنا على أنّها متناولة لأميرالمؤمنين عليه السلام دون غيره ، وفي ذلك إبطال لما تضمّنه صدر هذا الفصل
والجواب عنه». ۱۹
ثمّ يتعرّض الشريف المرتضى قدس سره إلى بحوث مهمّة تتعلّق بالآية الكريمة ، ومقدار معطياتها ، ويرد على الإشكالات الموجّه اليها ، الّتي توخّت حرف التنزيل عن المنزل فيه.
وتأسف للقاضي عبدالجبّار في مقولته الّتي قالها قدحاً بالخبر وبالآية عندما قال: «ليس من المدح إيتاء الزكاة مع الاشتغال بالصلاة ، وأنّ الواجب على الراكع أن يصرف همّته إلى ما هو فيه».
ويستاء الشريف المرتضى قدس سره من هذا التسطيع في فهم الآية والخبر منه بالخصوص ، حيث يقول: «ويقال له في قوله... إنّما لا يكون ما ذكرته مدحاً إذا كان قطعاً للصلاة ، وانصرافاً عن الاهتمام بها ، والإقبال عليها.
فأمّا إذا كان مع القيام بحدودها والأداء بشروطها فلا يمتنع أن يكون مدحاً ، على أنّ الخبر الّذي بيّنا وروده من طريقين مختلفين مبطل لتأويله هذا». ۲۰
ثمّ يأتي بنصّ الرواية والخبر ، ويصحح ما قاله ، ويردّ على القاضي عبدالجبّار في تهافته، وبعد ذلك يأتي بعدّة إشكالات على الآية ووجهات بعض الأعلام والمفكّرين في ذلك.
وكذلك من المناهج المنطقية في المسائل العقائدية هو: أنّ الفكر الإمامي أصيل في معتقداته وطرقه ، وينظّر لواقع الأمر ولا يهمّه ثبوت الحقّ لأحد بعينه ، وإنّما المهم عنده ثبوته للإنسان المحقّ ولا يتخبط في أدلّته عشوائياً ، كما يتّضح ذلك جليّاً في قوله تعالى: «وَ إِن تَظَـهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَـلـهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَــلِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلَـلـءِكَةُ بَعْدَ ذَ لِكَ ظَهِيرٌ » ۲۱ .
في هذا المقطع القرآن ي الكريم تظاهرت الروايات في نزوله ـ وخصوصاً قوله تعالى: «وَ صَــلِحُ الْمُؤْمِنِينَ» ـ في أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو واضح لمَن راجع كتب الأخبار عن الفريقين.
وتصوّر القاضي عبدالجبّار أنّ الإمامية تستدلّ بهذه الآية على إمامة الإمام علي عليه السلام ، حيث قال: «ولا يجوز أن يخصّه بذلك إلاّ لأمر يختصّ به دون سائر المؤمنين ، وذلك الأمر ليس إلاّ طريقة الإمامة». ۲۲
ثمّ إنّ القاضي عبدالجبّار أتعب نفسه في إبطال ذلك كلّه ، مدعياً أنّ الآية لا تدلّ على إمامة الإمام علي عليه السلام ، ولكن الشريف المرتضى قدس سره لا يتعسّف في الموقف ، فهو يقول قدس سره : إنّ الآية الّتي تلاها لا تدلّ عندنا على النصّ على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة ، ولا اعتمدها أحد من شيوخنا في هذا الموضع.
وكيف يصحّ اعتمادها في النصّ من حيث تتعلّق بلفظة مولاه ، ونحن نعلم أنّ هذه اللفظة لو اقتضت النصّ في الإمامة لوجب أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام إماماً للرسول صلى الله عليه و آله ؛ لأنّ المكنّى عنه بالهاء الّتي في لفظة «مولاه» هو الرسول صلى الله عليه و آله .
ولو اقتصر صاحب الكتاب في إبطال دلالة الآية على النصّ على ما ذكرناه لكفاه ولاستغنى عن غيره. ۲۳
هذه هي نزاهة البحث العلمي الّتي يتخلّق بها علماء الإمامية ، فقد كان يمكن أن يجرف الآية في إمامة الإمام علي عليه السلام ولاأقل يشكل الظن في ذلك ، خصوصا مع تظافر الأخبار بذلك ، ولكن ذلك يكون على حساب دينه وعقيدته وعقله وإنصافه ، وهذا ما يأباه شيمة هذا المحقّق العظيم.
وهذا بحدّ ذاته منهج علمي وأخلاقي يتبع في تحقيق البحوث العلمية وخصوصا
العقائدية الّتي تدخل فيها أغراض غير نزيهة.
وبالمطاف الأخير يصحح الشريف المرتضى قدس سره الآية الشريفة ، ويصوّرها بما يطابق الحقّ حيث يقول: «وإنّما يعتمد أصحابنا هذه الطريقة من الآية في الدلالة على فضل أمير المؤمنين عليه السلام وتقدّمه وعلو رتبته ، فإن جعل لها تعلّق بالنصّ على الإمامة من حيث دلّت على الفضل المعتبر فيها ، وكان الإمام لايكون إلاّ الأفضل جاز ، وذلك لا يخرجها من أن يكون غير دالّة بنفسها على الإمامة ، بل يكون حكمها في الدلالة على الفضل حكم غيرها من الأدلّة عليه ، وهي كثيرة». ۲۴
ولا يحيد الشريف المرتضى قدس سره عن الاستدلال بهذه الآية بالدليل المنطقي (الصغرى والكبرى والنتيجة) ، ليسير طبقا للمنهجية العلمية المتّبعة ، ونلخّص ذلك بصورة مختصرة:
ثبت أنّ صالح المؤمنين هو الإمام علي عليه السلام ، وناصر المؤمنين لابدَّ أن يكون أقوى الخلق في نصرة نبيه صلى الله عليه و آله ، وليس ذلك إلاّ أمير المؤمنين عليه السلام . ۲۵
بهذه الصورة المنطقية الملخّصة يثبت أنّ المعنى هو الإمام علي عليه السلام .
وكذلك من المناهج المنطقية في المسائل العقائدية هو : من الآيات الدالّة على فضل أمير المؤمنين عليه السلام هي آية المباهلة ، وهي قوله تعالى: «فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَـذِبِينَ» ۲۶ .
وقد وردت أخبار كثيرة من الطرفين أنّها نزلت في الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والصديقة الكبرى عليه السلام والحسنين عليهماالسلاموعلى رأسهم النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله .
وقد دخل الإمام علي عليه السلام تحت قوله تعالى: «وَأَنفُسَنَا» ولا يجوز للنبيّ صلى الله عليه و آله وسلمأن يجعله من نفسه إلاّ وهو يتلوه في الفضل.
وقد أشار القاضي عبدالجبّار إلى ذلك في صدر تعرضه إلى هذه الكريمة ، وأورد عليها بثلاثة إشكالات:
الإشكال الأوّل: أنّ الإمامة قد تكون فيمَن ليس بأفضل.
الإشكال الثاني: أنّ بعض مشايخ القاضي كان يذكر عن بعض أصحاب الآثار أنّ الإمام علي عليه السلام لم يكن في المباهلة.
الإشكال الثالث: أنّ أبا هاشم كان يقول: إنّما خصّص صلى الله عليه و آله من تقرّب منه في النسب ، ولم يقصد الإبانة عن الفضل ، ودلّ على ذلك بأنّه عليه السلام أدخل فيها الحسن والحسين عليهماالسلاممع صغرهما ؛ لما اختصا به من قرب النسب ، وقوله: «وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ» . . . ، ولا ينكر أن يدلّ ذلك على لطف محله . . . ، وإنّما أنكرنا أن يدلّ ذلك على أنّه الأفضل ، أو على الإمامة. ۲۷
وقد أجاب الشريف المرتضى قدس سره عن الإشكالين الأوّلين بجواب واحد بقضية منطقية ، ثمّ عقّب عن الإشكال الثاني ، وقال: «وهذا الضرب من الاستدلال كالمستغني عن تكلّف إطباق أهل الحديث كافة على دخول أمير المؤمنين عليه السلام في المباهلة ، وإنّما أوردناه استظهاراً في الحجّة». ۲۸
والقضيّة الّتي أشرنا إليها من كلام الشريف المرتضى قدس سره ، هي:
۱ . إنّ آية المباهلة تدلّ على فضل من دعي إليها.
۲ . ومن دعي فهو مقدّم على غيره.
۳ . إذا مَن دعي فهو أفضل ومقدّم على غيره.
ويستدلّ على المقدّمة الثانية بتظاهرت الرواية بحديث المباهلة ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله دعا إليها أمير المؤمنين عليه السلام ... وقد أجمع أهل النقل وأهل التفسير على ذلك. ۲۹
بهذه الصورة المنطقية المرتبة استطاع الشريف المرتضى قدس سره أن يتغلّب على الإشكال الأوّل والثاني ، وإن ندد بصورة خاصّة على الإشكال الأوّل ؛ لعظمة دعواه وبشاعة نقله ، حيث قال قدس سره: «ولسنا نعلم إلى أي أصحاب الآثار أشار بدفع أمير المؤمنين عليه السلام في المباهلة ، وما نظنّ أحداً يستحسن مثل هذه الدعوى». ۳۰
ويخصّص الشريف المرتضى قدس سره الحديث عن الإشكال الثالث ؛ لأهميته العلمية ، خصوصاً وأنّ الإشكال قد ورد عن أبي هاشم المعتزلي من زعماء أهل الاستدلال والعقل ، حتّى أنّه يردّ على إشكاله الثالث ـ المتقدّم ـ بقضيتين منطقيتين يمكن استخراجها من كلام الشريف المرتضى قدس سره بهذه الصورة:
۱ . إنّ القصد إلى إحضار من يقرب منه في النسب لو كان إلى ما ادعاه لوجب أن يدعو العبّاس وولده.
۲ . والنبيّ صلى الله عليه و آله خصّص أمير المؤمنين عليه السلام بالحضور.
۳ . فأمير المؤمنين عليه السلام له الفضل بحضوره.
والقضية الثانية:
۱ . إنّ صغر السن ونقصانهما لاينافي العقل ؛ لتعلّق الأحكام الشرعية.
۲ . إنّ الحسنين عليهماالسلام في تلك الحال لا يمتنع معهما أن يكونا كاملي العقل.
۳ . ولا منافاة عقلاً لتعلّق الأحكام الشرعية بهما عليهماالسلام. ۳۱
طبعاً استخراج هاتين القضيتين من كلام الشريف المرتضى قدس سره فيه شيء من
التمحل ، ولكن روحهما كما ذكرناه ، وإن أمكن تصوير ذلك بصور اُخرى.
نعم كلّ من صغرى وكبرى القضيتين يستدلّ عليهما الشريف المرتضى قدس سره بعدة أدلّة وشواهد يمكن مراجعة كتاب الشافي في ذلك .
والمهم هنا هو أنّ رد الشريف المرتضى قدس سره نابع من اُسس عقلية منطقية خصوصاً الإشكال الثالث الّذي حظي بأهمية بالغة عنده ، كما هي إشكالات أبي هاشم وأبي علي الجبائي.
ويقول الشريف المرتضى قدس سره في آخر المطاف : «وليس يجوز أن يكون المعنى في قوله تعالى: «وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ» قرب القرابة حسب ما ظن ، بل لابدَّ أن تكون هذه الإضافة مقتضية للتخصيص والتفضيل». ۳۲
ويؤنس الشريف المرتضى قدس سره بعدّة روايات وأخبار في البين في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وفضل الحسنين عليهماالسلام.
ويؤكّد مرّة ثانية ، ويقول قدس سره: «ولا شبهة في أنّ الإضافة فيما ذكرناه من الأخبار إنّما تقتضي التفضيل والتعظيم والاختصاص دون القرابة». ۳۳
وكذلك من المناهج المنطقية في المسائل العقائدية هي: حديث المؤاخاة الّتي انعقدت بين النبيّ صلى الله عليه و آله والإمام أمير المؤمنين عليه السلام ممّا اشتهرت بين الفريقين ، واحتجّ بها الإمام علي عليه السلام بقوله : «أفيكم أحد آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بينه وبين نفسه غيري» وغيرها من النصوص القريبة من هذا المضمون ، وأنّه صلى الله عليه و آله قصد إلى أمر زائد على ما تقتضيه الاُخوة في الدّين ؛ لأنّه لو أراد ذلك لم يكن ليخصّ بعضاً دون بعض باُخوة غيره ، وإذا صحّ أنّ المقصد أمر زائد فليس إلاّ إبانة الاختصاص ، والتقارب بين من آخى بينهما ، فإذا آخى بين الإمام عليه السلام وبينه صلى الله عليه و آله فقد دلّ على أنّه أخصّ الناس به ، وأقربهم
إليه ، وأفضلهم بعده ، وذلك يقتضي أنّه أولى بالإمامة. ۳۴
وهذا البيان اللطيف والجميل هو للقاضي عبدالجبّار المعتزلي ، ولكنّه مع الأسف يتمحّل لخلق الإشكالات على هذا الخبر ، بحيث يخرج هذا المفهوم الصريح إلى متاهات ومطبّات عميقة يأباها المنطق الواضح ، وسوف نستعرضها لنرى مقدار معطياتها ، ومقدار منازلة الشريف المرتضى قدس سره لها ، وهي:
ليس في ظاهر المؤاخاة ولافي معانيها ما يقتضي الإمامة ، وإن دلّ الخبر على أنّ الإمام علي عليه السلام أفضل من غيره ، أو على أنّه أقربهم إلى قلبه ، وأحبهم إليه ، أو على جميع ذلك. ۳۵
هذه هي المطبّة الأساس في عمق الإشكال ، ويأتي القاضي عبدالجبّار بشواهد لا تنهض بذلك ، يتعرّض لها الشريف المرتضى قدس سره بدقّة وموضوعية.
ولكن الشريف المرتضى قدس سره يقف أمامه بقضية منطقية مركبة من صغرى وكبرى ، ثمّ يستنتج منها قضية الإمامة في آخر القياس ؛ لأنّه قسّم النصّ الوارد عن النبي صلى الله عليه و آله إلى قسمين:
القسم الأوّل: ما يدلّ بلفظه وصريحه على الإمامة.
القسم الثاني: ما يدلّ فعلاً كان أو قولاً على الإمامة بضرب من الترتيب والتنزيل.
وبعد هذا التقسيم الثاني للخبر يضمّ مقدّمة اُخرى إليهما ، وهي:
إنّ كلّ أمر وقع من النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم من قول أو فعل يدلّ على تميز أمير المؤمنين عليه السلام واختصاصه من الرتب العالية ، فهو دالّ على النصّ بالإمامة من حيث كان دالاًّ على عظم المنزلة وقوة الفضل ، فمن كان كذلك فهو أولى بالإمامة. ۳۶
بهذه القضية المنطقية استطاع الشريف المرتضى قدس سره أن يرد هذا الإشكال للقاضي عبدالجبّار .
ثمّ ردّ على الشواهد الّتي جعلها مدركا لهذا الإشكال ، وفي مطاف البحث يصرّح الشريف المرتضى قدس سره أنّ هذه المؤاخاة ذريعة قوية إلى الإمامة ، وسبب وكيد في استحقاقها ، لأنّه قال الإمام عليّ عليه السلام يوم الشورى ـ لمّا عدد فضائله إلى استحقاق الإمامة قال في جملة كلام ـ : «أفيكم أحد آخى ...» ثمّ يأتي بعدّة روايات صريحة في دلالة المؤاخاة على الفضل والإمامة وبطلان قول من ظن خلاف ذلك. ۳۷
فحينئذٍ لايبقى وجه لماقاله أبو هاشم (شيخ القاضي عبدالجبّار) عندما قال: «إنّما قصد صلى الله عليه و آله بالمؤاخاة: التأليف ، والاستنابة، ۳۸ والبعث على المعونة ، والمؤاساة » . ۳۹
لأنّ هذه المؤاخاة كانت تقتضي تفضيلاً وتعظيماً ، وأنّها لم تكن على سبيل المعونة والمؤاخاة ؛ فإنّه تظافر الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام في غير مقام بقوله مفتخراً متبجّحاً . . . فلولا أنّ في الآخرة تفضيلاً وتعظيماً لم يفتخر عليه السلام بها، مضافاً إلى قرائن الأحوال الّتي تشكّل قرينة على الإمامة الكبرى والخلافة العظمى.
وكذلك من المناهج المنطقية في المسائل العقائدية : هو ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلمأنّه قال في أبي بكر وعمر: «هذان سيدا كهول أهل الجنّة» وما شاكل ذلك من الأخبار الّتي استدلّ بها على إثبات خلافة الأولين.
وقيّدها أبو علي شيخ القاضي عبدالجبار بأنّهما سيّدا من يدخل الجنّة من شباب الدنيا. ۴۰
يواجه الشريف المرتضى قدس سره هذا الاستدلال بقضية منطقية ، حيث يقول:
لا يخلو من أن يريد بقوله: «سيّد كهول . . . » أنّهما سيّدا الكهول في الجنّة.
أو يريد أنّهما سيّدا من يدخل الجنّة من كهول الدنيا.
فإن كان الأوّل فذلك باطل ؛ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد وقّفنا ، وأجمعت الاُمة على أنّ أهل الجنّة جرد مرد ، وألاّ يدخلها كهل.
وإن كان الثاني فذلك دافع ومناقض للحديث المجمع على روايته من قوله صلى الله عليه و آله في الحسنين عليهماالسلام: «أنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة » ؛ لأنّ هذا الخبر يقتضي أنّهما سيّدا كلّ من يدخل الجنّة إذا كان لايدخلها إلاّ شباب وأبو بكر وعمر ، وكلّ كهل في الدنيا داخلون في جملة من يكونان عليهماالسلام سيديه ، والخبر الّذي رووه يقتضي أنّ أبا بكر وعمر سيّداهما من حيث كانا سيّدي الكهول في الدنيا ، وهما من جملة من كان كهلاً في الدنيا». ۴۱
ثمّ يذكر الشريف المرتضى قدس سره بعض المداخلات على هذا الخبر ، ويردّ جميعها بطريقة منطقية مشابهة لما تقدّم ، ويأتي ببعض الأخبار الّتي تعارض هذا الخبر الوارد في الشيخين. ۴۲
ولا يكتفي الشريف المرتضى قدس سره بهذا القدر من نقد الخبر ، بل يأتي بقرينة داخلية في مضمون الخبر تؤكّد بطلانه ، وهي أنّه جاء في بعض صور الخبر أنّ الإمام علي عليه السلام كان جالساً بمحضر النبيّ صلى الله عليه و آله ، وقد سمع هذا الخبر في حقّ الشيخين ، فأوصاه النبيّ صلى الله عليه و آله ألاّ يخبر بذلك أحدا.
وقد استاء الشريف المرتضى قدس سره من حجم هذا الغلو المفرط ، وأكّد على أنّه لا داعي لهذه الإضافات في الأخبار ، فقد جاء أجلّ وأعظم من هذه الأخبار من غير أن يأمر صلى الله عليه و آله أحداً بكتمانه ، بل اُمر بإذاعته ونشره، يقول قدس سره خاتماً على هذه المكابرة:
«فما بال هذه الفضيلة من بين سائر الفضائل تكتم وتطوى عنهما؟ !» ۴۳ .
ومن المناهج المنطقية في المسائل العقائدية : هي الأخبار الّتي تدلّ على خلافة أبي بكر ، ومنها قول النبيّ صلى الله عليه و آله : «إنّ الأئمّة من قريش» .
فقد اعتقد بعض من مشيخة المعتزلة: «إنّ ذلك كان سبباً لصرف الأنصار عمّا كانوا عزموا عليه ، ولم ينكره في تلك الحال ، وأنّ أبا بكر استشهد في ذلك الحاضرين فشهدوا به على النبيّ صلى الله عليه و آله ، حتّى صار خارجاً عن باب خبر الواحد إلى الاستفاضة ، وقووا ذلك بأنّ ما جرى هذا المجرى إذا ذكر في ملأ من الناس وادعى عليهم المعرفة فتركهم النكير يدلّ على صحّة الخبر المذكور». ۴۴
ونحن لانتعرّض إلى جميع تهافتات هذا النصّ المنقول عن مشيخة المعتزلة ، بل ننقل ما يتعلّق بصميم الخبر ومنهجيته الروائية ، ولكن لا بأس بالإشارة إلى الطريقة الّتي ينقلها الشريف المرتضى قدس سرهوالّتي تتضمّن أنّ أبا بكر لم يحتجّ بهذا الخبر ، بل نقل أصحاب السير في خبر السقيفة وجوهاً وطرقاً ليس من جملتها هذا الخبر المدعى ، بل تضمّنت الأخبار الروائية الّتي رواها الزهري كلّها على اختلافها أنّ أبا بكر لمّا سمع كلام سعد بن عبادة وخطبته الّتي رواها الطبري ، قال: « أمّا بعد فما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله ، وأنّ العرب لن تعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً». ۴۵
ولكن الشريف المرتضى قدس سره لا يسلم بالخبر ؛ لأنّه خبر محض ، ومن المعلوم أنّ الخبر المحض لا يجوز صرفه إلى معنى الأمر إلاّ بدلالة ، وأكثر ما يقتضيه : أن يكون كلّ إمام يعقد له من غير قريش ، فمن أين له أنّه لا يجوز عقدها لغير قريش ؟ !
وبعدما يردّ الشريف المرتضى قدس سره بعض التهافتات على الخبر يبرز مقدّمة
تحقيقية ، يقول فيها: «فأمّا اللفظ الآخر الّذي رواه من قوله: «إنّ هذا الأمر لا يصلح إلاّ في هذا الحي من قريش» فضعيف لايكاد يعرف... وقد روينا في خبر الزهري من طرقه المختلفة أنّ هذا اللفظ إنّما حكاه أبو بكر عن نفسه ولم يسنده إلى الرسول صلى الله عليه و آله ، وأنّه قال: «إنّ العرب لن تعرف . . . ولو سلم هذا اللفظ على علاّته لم يكن أيضاً فيه حجّة ودليل ؛ لأنّ القائل قد يقول هذه الولاية لا تصلح إلاّ لفلان إذا كان أقوم بها من غيره وأولى ، وإن جازت في غيره. وهذا اللفظ لايكاد يستعمل إلاّ في التفضيل والترجيح ، ولا يستعمل في الأغلب في التحريم ونفي الجواز . وهذه الجملة تأتي على ما ذكره». ۴۶
بهذه الشفافية ينقد الخبر ، ويعتبر أنّ المستدلّ على الإمامة بهذا الخبر كأبي عليركيك الاستدلال ، وإن طغت على عبارة أبي علي الصبغة المنطقية عندما قال: «إنّهم أجمعوا قديماً على أنّ قريشاً تصلح للإمامة، ولا إجماع أنّ الإمامة تصلح في غيرها .
ولا يجوز إثبات الإمامة بغير حجّة سمعية ، فيجب لذلك أن يكون الإمام من قريش». ۴۷
ويردّه الشريف المرتضى قدس سره بأنّ هذا الاستدلال ركيك وضعيف، مدعيا أنّ المقدّمة الاُولى (الصغرى) وإن صحّت ـ أي قريش تصلح للإمامة ـ إلاّ أنّ إجماعهم على أنّ غيرها لايصلح هو موضع الخلاف.
ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره: «ولا يلزم إذا لم يكن في غير قريش إجماع وجب نفي الإمامة عنهم ؛ لأنّ الحقّ قد ثبت بالإجماع وغيره ، وليس مقصورا على الإجماع».
ويردّ المقدّمة الثانية (الكبرى): إنّها وإن كانت صحيحة إلاّ أنّه لم يبق من صلاح غير قريش للإمامة من الحجج السمعية إلاّ الإجماع دون ماعداه ، فمن أين أنّه لا حجّة سمعية في ذلك؟!
ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره : « على أنّه يلزمه على هذه الطريقة ـ إذا كانت صحيحة ـ أن تكون الإمامة مقصورة على ولد الإمامين الحسن والحسين عليهماالسلام ؛ لأنّ فيمَن عداهم من الناس اختلافا ، ولا إجماع على صلاح غيرهم للإمامة ، ولا اختلاف فيهم ، ولا أحد يدفع أنّهم يصلحون للإمامة . . . » ۴۸ .
1. المصدر السابق: ص ۲۳۶ ـ ۲۳۷.
2. المصدر السابق : ص ۲۳۷.
3. المصدر السابق.
4. المصدر السابق: ص ۲۳۷ ـ ۲۳۸.
5. المصدر السابق : ص ۲۳۸.
6. المصدر السابق : ج ۲ ص ۱۵۸ ـ ۱۵۹.
7. المصدر السابق : ص ۱۶۰ ـ ۱۶۱.
8. المصدر السابق : ص ۱۹۲ ـ ۱۹۳.
9. المصدر السابق : ص ۱۹۳، وانظر المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۱۲۹ .
10. الشافي في الإمامة : ج ۲ ص ۱۹۵.
11. المصدر السابق : ص ۱۹۵ ـ ۱۹۶.
12. المصدر السابق : ص ۱۹۶ ـ ۱۹۷.
13. المصدر السابق : ص ۱۹۷.
14. المائدة: ۵۵.
15. الشافي في الإمامة : ج ۲ ص ۲۱۷، المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۱۳۳ .
16. المصدر السابق : ص ۲۱۷.
17. المصدر السابق : ص ۲۲۲.
18. المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۱۳۴ .
19. الشافي في الإمامة ج ۲ ص ۲۲۴.
20. المصدر السابق : ص ۲۳۲.
21. التحريم : ۴.
22. المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۱۳۹ .
23. الشافي في الإمامة : ج ۲ ص ۲۴۹.
24. المصدر السابق : ص ۲۴۹ ـ ۲۵۰.
25. المصدر السابق : ص ۲۵۰.
26. آل عمران: ۶۱.
27. المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۱۴۲ .
28. الشافي في الإمامة : ج ۲ ص ۲۵۴ ـ ۲۵۵.
29. المصدر السابق : ص ۲۵۴.
30. المصدر السابق.
31. المصدر السابق : ص ۲۵۵.
32. المصدر السابق : ص ۲۵۵ ـ ۲۵۶ .
33. المصدر السابق : ص ۲۵۷.
34. المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۱۸۷ ، وانظر المصدر السابق : ج ۳ ص ۸۱ .
35. المصدر السابق، وانظر الشافي في الإمامة : ج ۳ ص ۸۲.
36. الشافي في الإمامة : ج ۳ ص ۸۲ ـ ۸۳ .
37. المصدر السابق : ص ۸۴ ـ ۸۶.
38. يقصد بالاستنابة من أبي بكر في الخلافة.
39. المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۱۸۷ .
40. الشافي في الإمامة : ج ۳ ص ۹۳ .
41. المصدر السابق : ص ۱۰۶ ـ ۱۰۷.
42. المصدر السابق : ص ۱۰۷ ـ ۱۰۸.
43. المصدر السابق : ۱۰۹.
44. المصدر السابق : ص ۱۸۳ ـ ۱۸۴.
45. المصدر السابق : ص ۱۸۴، ۱۹۲.
46. المصدر السابق : ص ۱۹۵ ـ ۱۹۶.
47. المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج ۲۰ ص ۲۳۶ .
48. الشافي في الإمامة : ج ۳ ص ۱۹۹ ـ ۲۰۰ .