التعبد بخبر الواحد وعدمه شرعا
ما تقدّم من البحث السابق كان منصبّا على الناحية العقلية في جواز التعبد بخبر الواحد وعدمه ، والآن نبحث ذلك من الناحية الشرعية العبادية.
ويعتقد الشريف المرتضى قدس سره : إنّ العبادة ماوردت بالتعبد بخبر الواحد ، وإن كان العقل يجوز التعبد بذلك وغير محيل له. ۱
ثمّ يستعرض الشريف المرتضى قدس سره الخلاف في هذه المسألة قائلاً: «ووافق على ذلك كلّ من منع عقلاً من العبادة به من النظّام وغيره من المتكلّمين. وذهب الفقهاء
وأكثر المتكلّمين إلى أنّ العبادة قد وردت بالعمل بخبر الواحد في الشريعة.
وكان أبو علي الجبائي لا يعمل بخبر الواحد في الشريعة ، ويعمل بخبر الاثنين فصاعدا ، ويجريه مجرى الشهادة». ۲
وعمدة دليل الشريف المرتضى قدس سره في هذا الباب هو دليل واحد ، مركب من صغرى وكبرى ونتيجة بصورة قياس منطقي ، يقول قدس سره فيه : «العمل بالخبر لابد من أن يكون تابعا للعلم ، فأمّا أن يكون تابعا للعلم بصدق الخبر أو العلم بوجوب العمل به مع تجويز الكذب ، وقد علمنا أنّ خبر الواحد لا يحصل عنده علم بصدقه لا محالة ، فلم يبق إلاّ أن يكون العمل به تابعا للعلم بالعبادة بوجوب العمل به ، وإذا لم نجد دليلاً على وجوب العمل به نفيناه». ۳
هذا عمدة الدليل الّذي يعتمد عليه . نعم ، قبل هذه الصيانة النهائية للدليل يصوغه بصياغة اُخرى لا تتسم بسمات القضايا المنطقية.
ويجمل الشريف المرتضى قدس سره عمدة آراء المخالفين جميعا إلى تسعة أدلّة ، وسوف نتعرّض إلى معظمها مع ردودها للإحاطة بمنهجها الّذي يتبعه الشريف المرتضى قدس سرهفي ذلك .
وركّز الدليل الأوّل والثاني والثالث على الاستدلال بالآيات القرآن ية ، واقتصر الرابع على الدليل العقلي ، بينما كان الخامس والسادس يبحث المسألة من الجهة الأخبارية والروائية ، أما الدليل السابع والثامن والتاسع فهي أدلّة غير وضاءة في هذا المجال ، لم نتعرّض إليها .
وسوف نقتصر على دليل واحد لكلّ وجهة:
فأمّا دليل الوجهة القرآنية فانصع دليل فيها هو آية النفر ، وهي قوله تعالى: «فَلَوْلاَ
نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَـآلـءِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» . ۴
ويجمل الشريف المرتضى قدس سره استدلالهم بهذه الآية قائلاً:
« وليس يكونون منذرين لهم إلاّ ويلزمهم القبول منهم ». ۵
نعم ، هو يضيف وجها آخر للاستدلال بالآية الكريمة ، فيه شيء من الدقّة أكثر ، وهو : « وربّما قالوا : إنّ معنى الآية ولينذر كلّ واحد منهم قومه ، وإذا صحّ لهم ذلك استغنوا عن التشاغل بأنّ اسم طائفة يقع على الواحد ، كما يقع على الجماعة...». ۶
ويردّ الشريف المرتضى قدس سره على هذا الاستدلال بكلتا صورتيه قائلاً: «إذا سلمنا أنّ اسم الطائفة يقع على الواحد والاثنين فلا دلالة لكم في الآية ؛ لأنّه تعالى سمّاهم منذرين، والمنذر هو المخوف المحذر الّذي ينبّه على النظر والتأمّل ، ولا يجب تقليده ولا القبول منه بغير حجّة ؛ ولهذا قال تعالى: « لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » ومعنى ذلك : ليحذروا ، ولو أراد ما ادعوا لقال تعالى : « لَعَلَّهُمْ يَعْمَلُونَ أَوْ يَقْبَلون » والنبيّ صلى الله عليه و آله وإن سمّيناه منذرا وكان قبول قوله واجبا فمن حيث كان في ابتداء دعوته يكون مخوفا ، ثمّ إذا استقرّ دليل نبوته وجب العمل بقوله». ۷
كان هذا نموذج قرآني لأدلّة القائلين بورود التعبد بخبر الواحد ، وقريب منها الدليل الثاني والثالث ، تاركين للقارئ مراجعة الباقي.
أما الدليل العقلي الّذي يتعقّب الأدلّة القرآن ية يتكون من قضية منطقية مركبة من صغرى وكبرى ـ كما سيأتي ـ.
ولابدَّ أن نلفت رأي القارئ إلى أنّ هذا الدليل العقلي جاء بعد الأدلّة القرآن ية ؛
لأجل أنّ الترتيب الفكري عند الشريف المرتضى قدس سره هو على هذا المنوال ، فالقرآن مقدم ثمّ العقل ثمّ الدليل الاجتهاد.
أمّا الدليل العقلي فيقول الشريف المرتضى قدس سره فيه : « إنّ اللّه تعالى قد أمر رسوله صلى الله عليه و آله بالإبلاغ في مواضع من الكتاب لاتحصى،والإبلاغ يكون بالتواتر والآحاد معا ؛ لأنّه لو اختصّ بالتواتر وما يوجب العلم لوجب أن يكون العلم بفروع العبادات كالعلم باُصولها ، وكذلك فروع المعاملات كلّها ، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك ». ۸
ويضيف الشريف المرتضى قدس سره قائلاً : « ليس يجوز أن يؤمر بأن يبلغ إلاّ بما هو حجّة في نفسه يجب العمل به ، وهذا يقتضي أن يدلّ على أنّ الخبر الواحد بهذه الصفة حتّى يصحّ الإبلاغ به، ومن مذهب من خالفكم في هذه المسألة أنّ الإبلاغ لا يصحّ إلاّ بما هو حجّة توجب العلم ، أو بتواتر ، أو إجماع ، أو قول إمام معصوم نائب عنه عليه السلام وخليفة له بعد وفاته ». ۹
أمّا الدليل الاجتهادي (الأخبار) من أدلّة القائلين بورود التعبد بخبر الواحد فعمدته : «إنّ الصحابة مجمعة على العمل بأخبار لا تبلغ التواتر». ۱۰
ثمّ يذكر بعض الأخبار في هذا المجال تطبيقا لتلك الكبرى ، ويعتبرها الشريف المرتضى قدس سره أخبار آحاد لا توجب العلم ، ويرجعها إلى أنّها مصادرة على الموضوع. ۱۱
وفي آخر مطاف البحث يقول الشريف المرتضى قدس سره:
«وبعد فإذا كنتم تعملون على الجملة أنّ القوم عملوا على أخبار الآحاد فلا فائدة في ذكر هذه الأخبار المعينة وتدوينها في الكتب ؛ لأنّها تقتضي الظن على أجل
أحوالها ، وأي تأثير للظن مع العلم الضروري ؟!». ۱۲
ويمكن للقارئ أن ينظر للأدلّة وأجوبة الشريف المرتضى قدس سره عليها في الذريعةبنحو التفصيل.
وأكثر تفصيلاً ماذكره في جوابات المسائل التبانيات ، حيث ذكر كلّ إشكال على حدّة مع جوابه بنحو التفصيل. ۱۳
1. الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج ۲ ص ۵۲۸ ـ ۵۲۹.
2. المصدر السابق : ص ۵۲۹.
3. المصدر السابق : ص ۵۳۰ ـ ۵۳۱.
4. التوبة : ۱۲۲ .
5. الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج ۲ ص ۵۳۱.
6. المصدر السابق.
7. المصدر السابق : ص ۵۳۴ ـ ۵۳۵.
8. المصدر السابق : ص ۵۳۶.
9. المصدر السابق .
10. المصدر السابق : ص ۵۳۲ .
11. المصدر السابق : ص ۵۳۲ ـ ۵۳۳، ۵۳۸ ـ ۵۳۹.
12. المصدر السابق : ص ۵۴۱.
13. رسائل الشريف المرتضى ( المجموعة الاُولى ) : ص ۲۱ ـ ۹۶ .