129
المناهج الروائية عند شريف المرتضي

تمهيد

في هذا الفصل نتعرّض للمنهج الاُصولي ، وسوف نقصر البحث عمّا ورد في كتاب الذريعة ، إذ يعتبر كتاب الذريعة إلى اُصول الشريعة من الكتب الفاخرة في اُصول الفقه الشيعي الإمامي ، وهو مطبوع في مجلّدين ، بتحقيق دقيق في أربعة عشر بابا . وقد اشتمل كلّ باب على عدّة فصول ، وهذا الكتاب في غاية الأهمية لعدّة اُمور :
۱ . إنّه أوّل كتاب كامل في اُصول الفقه الشيعي الإمامي ، وما كتب قبله إنّما كان من قبيل فصول متناثرة ، وأغلبها مستلّة من اُصول الجمهور . نعم ، وإن طرحت في الذريعة عدّة كبيرة من آراء أهل السنّة وفحولهم في باب الاُصول ، ولكن عمق آراء الشريف المرتضى قدس سره وسعة نقده جعل من هذا الكتاب منظومة اُصولية مستقلّة توازي ، بل تفوق في كثير من مباحثها اُصول الجمهور .
۲ . يصرّح الشريف المرتضى قدس سره في مقدّمة كتاب الذريعة بأنّ مقصوده من تأليف الكتاب هو إملاء كتاب متوسط في اُصول الفقه لاينتهي بتطويل إلى الإملال ، ولا باختصار إلى الإخلال ، بل يكون للحاجة سدادا ، وللبصيرة زنادا ، ويخصّ مسائل الخلاف بالاستيفاء والاستقصاء ؛ لأنّ مسائل الوفاق تقل الحاجة فيها إلى ذلك .
۳ . يذكّر الشريف المرتضى قدس سره القارئ على أنّ في هذا الكتاب قد فصل بين علم الكلام وعلم الاُصول ، يقول قدس سره في مقدّمة كتابه : « فقد وجدت بعض من أفرد في
اُصول الفقه كتابا ، وإن كان قد أصاب في كثير من معانيه وأوضاعه ومباينه، قد شرّد من قانون اُصول الفقه واُسلوبها، وتعدّاها كثيرا وتخطّاها، فتكلّم على حدّ العلم والظّنّ وكيف يولّد النظر العلم ، والفرق بين وجوب المسبّب عن السّبب ، وبين حصول الشّيء عند غيره على مقتضى العادة ، وما تختلف العادة وتتّفق ، والشّروط الّتي يعلم بها كون خطابه تعالى دالاًّ على الأحكام وخطاب الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، والفرق بين خطابيهما بحيث يفترقان أو يجتمعان ، إلى غير ذلك من الكلام الّذي هو محض صرف خالص للكلام في اُصول الدّين دون اُصول الفقه .
فإن كان دعا إلى الكلام على هذه المواضع أنّ اُصول الفقه لا تتمُّ ولا تثبت إلاّ بعد ثبوت هذه الاُصول، فهذه العلَّة تقتضي أن يتكلَّم على سائر اُصول الدّين من أولها إلى آخرها وعلى ترتيبها، فإنّ اُصول الفقه مبنيَّة على جميع اُصول الدّين مع التَّأمُّل الصَّحيح، وهذا يوجب علينا أن نبتدئ في اُصول الفقه بالكلام على حدوث الأجسام ، وإثبات المحدث وصفاته وجميع أبواب التَّوحيد، ثمَّ بجميع أبواب التَّعديل والنُّبوات، ومعلومٌ أنَّ ذلك ممّا لا يجوز فضلاً عن أن يجب . والحجّة في إطراح الكلام على هذه الاُصول من الحجّة في إطراح الكلام على النَّظر وكيفيِّة توليده وجميع ما ذكرناه .
وإذا كان مضى ذكر العلم والظَّنِّ في اُصول الفقه اقتضى أن يذكر ما يوَلِّد العلم ، ويقتضي الظَّن ، ويتكلّم في أحوال الأسباب ، وكيفيَّة توليدها ، فألاّاقْتضانا ذكرنا الخطاب الّذي هو العمدة في اُصول الفقه والمدار عليه أن نذكر الكلام في الأصوات وجميع أحكامها، وهل الصَّوت جسم أو صفة لجسمٍ أو عرض؟
وحاجته إلى المحلّ وما يُولِّده وكيفيّة توليده .
وهل الكلام معنىً في النَّفس ، أو هو جنس الصَّوت ، أو معنى يوجد مع الصَّوت ؟ على ما يقوله أبو عليّ .
فما التشاغل بذلك كلّه إلاّ كالتشاغل بما أشرنا إليه ممّا تكلّفه،وماتركه إلاّ كتركه .
والكلام في هذا الباب إنّما هو الكلام في اُصول الفقه بلا واسطة من الكلام فيما هو اُصول لاُصول الفقه .
والكلام في اُصول الفقه بلا واسطة من الكلام فيما هو اُصول لاُصول الفقه .
والكلام في هذا الفنّ إنّما هو مع من تقرّرت معه اُصول الدّين وتمهّدت ، ثُمّ تعدّاها إلى غيرها ممّا هو مبني عليها .
فإذا كان المخالف لنا مخالفا في اُصول الدّين ، كما أنّه مخالف في اُصول الفقه ، أحلناه على الكتب الموضوعة للكلام في اُصول الدّين ، لم نجمع له في كتاب واحد بين الأمرين». ۱
وقد سعى الشريف المرتضى قدس سره أن يذكر آراء العلماء في كلّ مسألة مع أدلّتهم بالتفصيل ، ويردّهم بروح علمية موضوعية ، بغض النظر عن توجّهاتهم العقائدية وآرائهم الدّينية ، ومضيفا إليها أدلّة جديدة وبحوثا تحقيقية ، كما نشهد ذلك في بحثه في القياس والإجماع . نعم ، يقول الشريف المرتضى قدس سره في مقدّمة كتابه:
« ولعلّ القليل التافه من مسائل اُصول الفقه ، ممّا لم أملل فيه مسألة مفردة مستوفاة مستقلّة مستقصاة، لاسيّما مسائله المهمّات الكبار. فأمّا الكلام في الإجماع فهو في الكتاب الشافي والذخيرة مستوفىً ، وكذلك الكلام في الأخبار ، والكلام في القياس والاجتهاد بسطناه وشرحناه في جواب مسائل أهل الموصل الاُولى.
وقد كنّا قديما أمللنا قطعة من مسائل الخلاف في اُصول الفقه، وعلّق عنّا دفعات لاتُحصى من غير كتاب يقرأه المعلّق علينا من مسائل الخلاف على غاية الاستيفاء دفعات كثيرة. وعلّق عنّا كتاب العمدة مرارا لاتُحصى.
والحاجة مع ذلك إلى هذا الكتاب الّذي قد شرعنا فيه ماسة تامّة ، والمنفعة به
عامّة ؛ لأنّ طالب الحقّ من هذا العلم يهتدي بأعلامه عليه ، فيقع من قرب عليه ، ومن يعتقد من الفقهاء مذهب بعينه تقليدا أو إلفا في اُصول الفقه ينتفع بما أوضحناه من نصرة ما يوافق فيه. ممّا كان لايهتدي إلى نصرته وكشف قناع حجّته. ولا يجده في كتب موافقيه ومصنفيه ، ويستفيد أيضا فيما يخالفنا فيه، إنّا حررنا في هذا الكتاب شبهه الّتي هي عنده حجج وقررناها، وهذّبناها، وأظهرنا من معانيها ودقائقها ما كان مستورا ، وإن كنّا من بعد عاطفين على نقضها وإبانة فسادها، فهو على كلّ حال متقلّب بين فائدتين متردّدتين منفعتين. ۲
۴ . ويقول الشريف المرتضى قدس سره في مقدّمة هذا الكتاب أيضا : « فهذا الكتاب إذا أعان اللّه تعالى على إتمامه وإبرامه، كان بغير نظير من الكتب المصنّفة في هذا الباب ، ولم نعن في تجويد وتحرير وتهذيب، فقد يكون ذلك فيما سبق إليه من المذهب والأدلّة، وإنّما أردنا أنّ مذاهبنا في اُصول الفقه ما اجتمعت لأحد من مصنّفي كتب اُصول الفقه ، وعلى هذا فغير ممكن أن يستعان بكلام أحد من مصنّفي الكلام في هذه الاُصول ؛ لأنّ الخلاف في المذاهب والأدلّة والطرق والأوضاع يمنع من ذلك، ألاترى أنّ الكلام في الأمر والنهي الغالب على مسائله والأكثر والأظهر اُخالف القوم فيه، والعموم والخصوص فخلافي لهم وما يتفرّع عليه أظهر، وكذلك البيان والمجمل والإجماع والأخبار والقياس والاجتهاد ممّا خلافي جميعه أظهر من أن يحتاج إلى إشارة، فقد تحقّق استبداد هذا الكتاب بطرق مجددة لا استعانة عليها بشيء من كتب القوم المصنّفة في هذا الباب . وما توفيقنا إلاّ باللّه تعالى ». ۳
۵ . وقد كان هذا الكتاب محط نظر العلماء أخذا من الشيخ الطوسي قدس سره في عدّته حتّى صاحب قوانين علم الاُصول الميرزا القمّي قدس سره وإلى يومنا هذا . حتّى أنّا نرى تأثير آراء الشريف المرتضى قدس سرهعلى نظرات العلماء فيما بعده ، وفي كثير منها قد
نقلت صفحات وبحوث طويلة من هذا الكتاب ، وفي بعضها قد غيرت بعض صور الاستدلال التي استدلّ بها الشريف المرتضى قدس سره ، أو بعض تراتيب البحوث ، كما نشهد ذلك جليا في العدّة للشيخ الطوسي قدس سره ، وهذا ليس غريب ؛ لأنّ هناك نظريات جديدة قد احتواها هذا الكتاب ، كما في استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، أو أنّ من علائم الحقيقة هو استعمال المجرد ، من أراد الإحاطة بها فعليه مراجعة مقدّمة الذريعة بقلم الدكتور أبو القاسم الكرجي ؛ فإنّه قد أجاد وأحسن .
۶ . وأخيرا فقد أتحفنا الشريف المرتضى قدس سره بتحفة في مقدّمة كتابه ، وهي وجه تسمية كتابه قائلاً : « وقد سمّيته بالذريعة إلى اُصول الشريعة ؛ لأنّه سبب ووصلة إلى علم هذه الاُصول .
وهذه اللفظة في اللغة العربية وما تتصرّف إليه تفيد هذا المعنى الّذي أشرنا اليه ؛ لأنّهم يسمّون الحبل الّذي يحتبل به الصائد للصيد : ذريعة، واسم الذراع من هذا المعنى اشتقّ ؛ لأنّ بها يتوصّل إلى الأغراض والأوطار، والذراع أيضا صدر القناة . وذرع القيء إذا غلب ، وبلغ من صاحبه الوطر ، فبان أنّ التصرّف يعود إلى المعنى الّذي ذكرناه». ۴
وقد اقتصرنا في هذا الفصل على البحوث الروائية ، وتوضيح المنهجية الّتي سار عليها في الأخبار من نسخ القرآن بالسنّة وبالعكس ؛ أو نسخ بعض الشريعة بالبعض الآخر ، أو تخصيص الكتاب بالسنّة ، وما شاكلها من البحوث الّتي توخّت جلاء المنهج الروائي في هذا المجال عند الشريف المرتضى قدس سره ، وقد ألحقنا بها بعض الاُصول الّتي تضمّنتها رسائله ملخصين مباحثه ومهذبين مطالبه ، ولم ننس أو نتناسى شيء من المباحث بقدر الإمكان إن شاء اللّه تعالى ، تاركين التعليق عليها للفصول الآتية من الأبواب الاُخرى ؛ لنرى مقدار معطياته وإفاداته .

1. الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج ۱ ص ۲ ـ ۴ .

2. المصدر السابق : ص ۴ ـ ۵ .

3. المصدر السابق : ص ۵ ـ ۶ .

4. المصدر السابق : ص ۶ ـ ۷ .


المناهج الروائية عند شريف المرتضي
128
  • نام منبع :
    المناهج الروائية عند شريف المرتضي
    سایر پدیدآورندگان :
    وسام الخطاوی
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 3236
صفحه از 358
پرینت  ارسال به