التعارض بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة
قد يبدو التعارض واضحاً في بعض الأدلّة الشرعية ، كما يبدو التضادّ بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، نتيجة عدم تصوّر صحيح للمسألة ، أو عدم معرفة واضحة لأحد طرفي التضادّ والنزاع ، ومن هذا سوف تلوح علامات الاستغراب في رؤية الأدلّة من دون تحقيق وتمحيص.
وهذا شيء متعارف في عرف الشريعة المقدّسة إذا لم يعمل النظر إلى المخصصات والعمومات . . . ولكن بنظرة دقيقة ترتفع هذه الإشكالات وإمكان التغلب عليها .
ويستند الشريف المرتضى قدس سره على دعامته المعروفة بانّه لابدَّ من الاحتفاظ بظاهر الأدلّة ، ولا يمكن طرحها إذا كان لها محمل صحيح ووجه جمع يمكن من خلاله تصحيح الواقع ورفع التناقض.
ومن هذا المنطلق يقول الشريف المرتضى قدس سره: « إن قال قائل : ما تأويل قوله تعالى : «وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ» . ۱
وظاهر هذا الكلام يدلُّ على أنّ الإيمان إنّما كان لهم فعله بإذنه وأمره ، وليس هذا مذهبكم ، وإن حمل الإذن هاهنا على الإرادة اقتضى أنّ من لم يقع منه الإيمان لم يرده اللّه منه، وهذا أيضا بخلاف قولكم .
ثمّ جعل الرِّجس الّذي هو العذاب على الّذين لا يعقلون ، ومن كان فاقدا عقله لا
يكون مكلّفاً ، فكيف يستحقُّ العذاب؟ وهذا بالضدّ من الخبر المرويّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أكثر أهل الجنة البُلْه» .
الجواب، يقال له في قوله تعالى: «إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ» وجوه:
منها : أن يكون الإذن الأمر، ويكون معنى الكلام: إنّ الإيمان لا يقع إلاّ بعد أن يأذن اللّه فيه، ويأمر به، ولا يكون معناه ما ظنّه السائل من أنّه لا يكون للفاعل فعله إلاّ بإذنه، ويجري هذا مجرى قوله تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ» ۲ .
ومعلوم أنّ معنى قوله: ليس لها في هذه الآية هو ما ذكرناه، وإن كان الأشبه في هذه الآية الّتي فيها ذكر الموت أن يكون المراد بالإذن العلم .
ومنها : أن يكون الإذن هو التوفيق والتيسير والتسهيل، ولا شبهة في أنّ اللّه يوفّق لفعل الإيمان ويلطف فيه، ويسهّل السبيل إليه .
ومنها : أن يكون الإذن العلم من قولهم : أذنت لكذا وكذا إذا سمعته وعلمته ، وأذنت فلانا بكذا إذا أعلمته ، فتكون فائدة الآية الإخبار عن علمه تعالى بسائر الكائنات ، فإنّه ممّن لا يخفى عليه الخفيّات... وقد أنكر بعض من لابصيرة له أن يكون الإذن (بكسر الألف وتسكين الذال) عبارةً عن العلم، وزعم إنّ الّذي هو العلم الأذَنُ (بالتحريك)، واستشهد بقول الشاعر:
إِنَّ هَمَّي في سَمَاعٍ وَأَذَنْ
وليس الأمر على ما توهّمه هذا المتوهّم ؛ لأنّ الأذن هو المصدر ، والإذن هو اسم الفعل؛ فيجري مجرى الحذر في أنّه مصدر ؛ والحذر (بالتسكين) الاسم ، على أنّه لو لم يكن مسموعاً إلاّ الأذَن (بالتحريك) لجاز التسكين، مثل مَثَلٍ ومِثْلٍ وشَبَهٍ وشبْهٍ ونظائر ذلك كثيرة.
ومنها: أن يكون الإذن العلم، ومعناه إعلام اللّه المكلّفين بفضل الإيمان وما يدعو إلى فعله، ويكون معنى الآية: وما كان لنفسٍ أنْ تؤمن إلاّ بإعلام اللّه لها بما يبعثها على الإيمان، وما يدعوها إلى فعله.
فأمّا ظنّ السائل دخول الإرادة في محتمل اللفظ فباطل؛ لأنّ الإذن لا يحتمل الإرادة في اللّغة، ولو احتملها أيضا لم يجب ما توهّمه ؛ لأنّه إذا قال : إنّ الإيمان لا يقع إلاّ وأنا مريد له لم ينف أن يكون مريداً لما لم يقع، وليس في صريح الكلام ولا دلالته شيء من ذلك .
وأمّا قوله تعالى: «وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ» فلم يعن بذلك الناقصي العقول، وإنّما أراد الّذين لم يعقلوا ويعلموا ماوجب عليهم علمه من معرفة اللّه خالقهم، والاعتراف بنبوّة رسله والانقياد إلى طاعتهم، ووصفهم تعالى بأنّهم لايعقلون تشبيها ، كما قال تعالى: «صُمُّم بُكْمٌ عُمْىٌ» ۳ ، وكما يصف أحدنا من لم يفطن لبعض الاُمور ، أو لم يعلم ما هو مأمور بعلمه بالجنون وفقد العقل.
فأمّا الحديث الّذي أورده السائل شاهداً له فقد قيل : إنّه عليه وآله السلام لم يرد بالبُلْهِ ذوي الغفلة والنقص والجنون، وإنّما أراد البُلْه عن الشرّ والقبيح ، وسمّاهم بُلْهاً عن ذلك من حيث لا يستعملونه ولا يعتادونه، لا من حيث فقدوا العلم به . ووجه تشبيه من هذه حاله بالأَبْله ظاهر ؛ فإنّ الأَبْلَهَ عن الشيء هو الّذي لا يعرض له ولا يقصد إليه، فإذا كان المتنزِّه عن الشرّ معرضاً عنه ، هاجرا لفعله جاز أن يوصَف بالبَلَه للفائدة الّتي ذكرناها ، ويشهد بصحّة هذا التأويل قول الشاعر :
ولَقَدْ لَهَوْتُ بِطَفْلَةٍ مَيَّادَةٍبلْهَاءَ تُطْلُعنِي علَى أَسْرَارِها
أراد أنّها بَلْهاء عن الشرّ والريبة ،وإن كانت فطنةً لغيرهما ؛وقال أبو النجم العجلي:
مِنْ كُل عَجْزَاءَ سَقُوطِ البرقُعِبَلهاءَ لَمْ تُحْفَظ وَلَمْ تُضَيَّعِ
أراد بالبلهاء ما ذكرناه . فأمّا قوله : «سقوط البرقع» فأراد أنّها تبرز وجهها ولا تستره، ثقة بحسنه وإدلالاً بجماله ، وقوله : «لم تحفظ» أراد أنّ استقامة طرائقها تغني عن حفظها ، وأنّها لعفافها ونزاهتها غير محتاجة إلى مسدّد وموقّف؛ وقوله: «لم تضيع» أراد أنّها لم تهمل في أغذيتها وتنعيمها وترفيهها فتشقى، ومثل قوله: «سقوط البرقع» قول الشاعر :
فَلَمَّا تَوَاقَفْنا وَسَلَّمْتُ أَقْبلَتْوُجُوهُ زَهَاهَا الحُسْنُ أَنْ تَتَقَنَّعَا
ومثله أيضا:
بهَا شَرَقٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ وَعَنْبَرٍأَطَارَتْ منَ الحُسْنِ الرِّدَاءَ المُحَبَّرا
أي رمتْ به عنها ثقة بالجمال والكمال، ومثله وهو مليح :
لَهَوْنَا بمنْجُولِ البَرَاقعِ حِقْبَةًفَمَا بَالُ دَهْرٍ لَزَّنَا بِالوَصَاوِصِ
أراد بــ «منجول البراقع» اللاتي يوسعن عيون براقعهنّ ثقةً بحسنهنّ، ومنه الطعنة النّجلاء ، والعين النّجلاء ، ثمّ قال: ما بال دهر أحوجنا واضطرنا إلى القباح، اللواتي يضيقن عيون براقعهن لقبحهنّ، والوصاوِص: هي النّقب الصّغار للبراقع، وممّا يشهد للمعنى الأول الّذي هو الوصف بالبَلَه لا بمعنى الغفلة قول ابن الدّمينة:
بِمالِي وَأَهْلِي مَنْ إذَا عَرَضُوا لَهُبِبَعْضِ الأَذى لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُجيبُ
ويروى : بنفسي وأهلي .
وَلَمْ يَعْتَذِرْ عُذْرَ البَرِىّ وَلَمْ تَزَلْبِه ضعفةٌ حَتَّى يُقَالَ مُرِيبُ
ومثله:
أُحِبُّ اللَّوَاتي في صَباهُنَّ غِرَّةٌوَفيهنَّ عَنْ أَزْوَاجِهِنَّ طِمَاحُ
مُسِرَّاتِ حُبٍّ مُظْهِرَاتِ عَداوَةًتَرَاهُنَّ كَالمَرْضَى وَهُنَّ صحاحُ
ومثله:
يكتَبينَ اليَنْجُوجَ في كَبَدِ الْمَشْتى وَبُلْهٌ أَحْلاَمُهُنَّ وِسَامُ
أما قوله: «يكتبين» فمأخوذ من لفظ الكِباء، وهو العود، أراد يتبخّرن به، والينجُوج هو العود، وفيه ست لغات: يَنْجُوج، وأَنْجُوج، ويَلْنجُوج، وألَنْجُوج، وألَنْجَج، ويَلَنْجَج.
فأمّا كَبَد المشْتى، فهو ضَيْقَتُه وشدّته، ومنه قوله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الاْءِنسَـنَ فِى كَبَدٍ» ۴ ، وقد روي: «في كَبّة المشتى» والمعنى متقارب ؛ لأنّ الكَبّة هي الصدمة والحملة، مأخوذ من كَبّةِ الخيل؛ وأمّا الوسام فهنّ الحسان من الوسامة، وهي الحسن .
ويمكن أن يكون في البَلَهِ جواب آخر ، وهو أن يحمل على معنى البَلَه الّذي هو الغفلة والنقصان في الحقيقة، ويكون معنى الخبر أنّ أكثر أهل الجنة الّذين كانوا بُلها في الدنيا، فعندنا أنّ اللّه ينعّم الأطفال في الجنّة والمجانين والبهائم، وإنّما لم نجعلهم بُلها في الجنّة ، وإن كان ما يصلُ إليهم من النعيم على سبيل العِوَض أو التفضّل لا يفتقر إلى كمال العقل ؛ لأنّ الخبر ورد بأنّ الأطفال والبهائم إذا دخلوا الجنّة لم يدخلوها إلاّ وهم على أفضل الحالات وأكملها، ولهذا صرفنا البُله عنهم في الجنّة، ورددناه إلى أحوال الدنيا، وإلاّ فالعقل لا يمنع من ذلك كمنعه إياه في باب الثواب والعقاب. ۵