منزلته الاجتماعية والسياسيـة
كان الشريف رحمه الله مقرّبا لدى خلفاء بني العباس ، أثيرا عندهم ومعظما ؛ وذلك لما يتحلّى به من كريم الصفات وعظيم الملكات ؛ ولما تربطه بهم من وشائج النسب ، ووسائل القربى ، مع جليل المكانة والمنزلة عند الخاصّ والعام ؛ ولذا قلّد نقابة الطالبين ، وأمر الحجّ والمظالم ، وجميع ما كان لأخيه الرضي ـ وهي مناصب خطيرة
جدّا ـ وذلك في يوم السبت الثالث من صفر سنة (۴۰۶ ه)، وهي سنة وفاة أخيه الرضي في عهد الخليفة القادر باللّه ، وجمع الناس لقراءة عهده في الدار الملكية، وحضر فخر المُلك «الوزير أبو غالب محمّد بن خلف» والأشراف والقضاة والفقهاء.
وكان العهد الّذي عهده الخليفة القادر باللّه هذا نصّه :
«هذا ما عاهد عبداللّه أحمد القادر باللّه أمير المؤمنين إلى علي بن الحسين بن موسى العلوي، حين قرّبته إليه الأنساب الزكية، وقدّمته لديه الأسباب القوية، واستظلّ معه بأغصان الدوحة الكريمة، واختصّ عنده بوسائل الحرمة الوكيدة، فقلّده الحجّ والنقابة ، وأمره بتقوى اللّه . . . » . ۱
وفي فاتحة ديوان الشريف المرتضى قدس سره مرثية جيّدة يرثي بها الخليفة القادر باللّه المتوفى ( ۴۲۲ ه ) ، ويذكر فجعته به ، وهلعه ببلوغ نعيه إليه، ثمّ يصفه بالعفاف والتقى ونقاوة الإزار ، قد كان القادر يدعى راهب بني العباس ، ويهنئ بها أيضا ابن الخليفة القائم لتوليه الخلافة عند أخذ البيعة له، وكان المرتضى قدس سره أوّل من بايعه.
فلهذه العلاقات الوثيقة والوشائج العريقة الّتي تربط المرتضى قدس سره بالخلفاء ، فكان كثير الرفقة لهم ، شديد الاتصال بهم، يأنسون في أغلب الاُمور برأيه، ويجعلون منه حافظ سرّهم الأمين، مشيرهم الناصح، وسفيرهم المصلح في أكثر ملماتهم وعظائم اُمورهم إلى الملوك والوزراء ، وكافة عمال الدولة ، وطبقات الناس.
فلا غرابة أن تكون دار المرتضى الوَزَرَ المنيع ، والحصن الحصين ، يلجأ إليها الملوك والوزراء عندما تعروهم المحن ، ويحيق بهم البلاء على أثر الفتن الحادثة في ذلك العصر، وما أكثرها !
فيحدّثنا التاريخ : بنزول الملك جلال الدولة في دار المرتضى قدس سره بدرب جميل
بعد أن تغيّرت قلوب الجند عليه ، فشغبوا ونهبوا حتّى اضطر الملك إلى نقل ولده وحرمه وما بقي من ثيابه وآلاته ودوابه وفرش داره إلى جانب الغربي ليلاً، وذلك على أثر استيزار الوزير أبي القاسم ابن ماكولا، ثمّ جرت مكاتبات بين العسكر والخليفة في شأنه، وكان الوسيط في عرض مطاليب هؤلاء هو الشريف المرتضى قدس سره ، وذلك في سنة (۴۲۴ ه ) . ۲
كما نجد فتن العَيارين تشغل بال السلطان ، فيراسل المرتضى رحمه الله بإحضارهم إلى داره ، وأن يقول لهم: من أراد منكم التوبة قبلت توبته ، واقر في معيشته ، ومن أراد منكم خدمة السلطان استخدم مع صاحب البلد، ومن أراد الانصراف عن البلد كان آمنا على نفسه ثلاثة أيّام . . . وذلك في سنة (۴۲۵ ه). ۳
ويروي لنا التاريخ أيضا: ۴ إنّه في ربيع الآخر سنة (۴۲۷ ه) نقل أبو القاسم ابن ماكولا الوزير بعد أن قبض عليه وسلم إلى المرتضى قدس سرهإلى دار المملكة ، فمرض ويئس منه، وراسل الخليفة في معنى أخيه قاضي القضاة أبي عبداللّه ابن ماكولا، وقيل : هو يعرف أمواله، فدفع عنه الخليفة، ثمّ إنّ الجند شغبوا على جلال الدولة ، وقالوا : إنّ البلد لا يحتملنا وإياك، فأخرج من بيننا، فإنّه أولى لك، فقال: كيف يمكنني الخروج على هذه الصورة ؟ أمهلوني ثلاثة أيّام حتّى أخذ حرمي وولدي وأمضي، فقالوا: لا نفعل، ورموه بآجرة في صدره فتلقاها بيده، واُخرى في كتفه، فاستجاش الملك الحواشي والعوام، وكان المرتضى والزينبي والماوردي عند الملك، فاستشارهم في العبور إلى الكرخ كما فعل في المرّة الاُولى، فقالوا: ليس الأمر كما كان وأحداث الموضع قد ذهبوا، وحوّل الغلمان خيمهم إلى ما حول الدار إحاطة بها،
وبات الناس على أصعب خطّة، فخرج الملك نصف اللّيل إلى زقاق غامض، فنزل إلى دجلة، وقعد في سميرية فيها بعض حواشيه ، فغرقوها تقديرا أنّه فيها ، ومضى الملك مستترا إلى «دار المرتضى »، وبعث حرمه إلى دار الخليفة، ونهب الجند دار المملكة وأبوابها وساجها ورتّبوا فيها حفظة، فكانت الحفظة تخربها نهارا وتنقل ما اجتمع من ذلك ليلاً.
ولابدَّ أن يصيب الشريف المرتضى قدس سره من جراء ذلك كثير من الأذى من رشاش تلك الحوادث وشظايا تلك الفتن ، الّتي قلّما يسلم منها الوسطاء، أو يفلت منها المصلحون، وقد يجرّ عليهم ذلك أحيانا ارتياب الخليفة ، أو تغيّر قلبه لانقداح الشكّ فيه ؛ لعارض شبهة قد لايكون لها أصل.
فيحدّثنا التاريخ: إنّ الوزير أبا القاسم المغربي ۵ جمع الأتراك والمولدين ؛ ليحلفوا لمشرف الدولة البويهي، وكلّف مشرف الدولة الشريف المرتضى قدس سره ونظام الحضرتين أبا الحسن الزينبي وقاضي القضاة أبا الحسن بن أبي الشوارب، وجماعة من الشهود والحضور، فأحلفت طائفة من القوم، فظنّ الخليفة أنّ التحالف لنيّة مدخولة في حقّه، فبعث من دار الخليفة من منع الباقين بأن يحلفوا، وأنكر على الشريف المرتضى والزينبي وقاضي القضاة حضورهم بلا إذن، واستدعوا إلى دار الخلافة في ۶ سرح الطيّار، وأظهر عزم الخليفة على الركوب، وتأدى ذلك إلى مشرف الدولة وانزعج منه ، ولم يعرف السبب فيه، فبحث عن ذلك ، إذ إنّه اتصل بالخليفة هذا التحالف عليه، فترددت الرسائل باستحالة ذلك، وانتهى الأمر إلى أن حلف مشرف الدولة على الطاعة والمخالصة للخليفة . . . . ۷
وقد لا يقف الأمر عند هذا الحد من الارتياب والشكّ الّذي يمحوه استكشاف الحال بالاستجواب أو العتاب، بل قد يصل إلى أكثر من ذلك من الإضرار بالأنفس والأموال.
أمّا ما كان يصيب الشريف المرتضى قدس سره من فتن العامّة وأمر الطغام، فشيء ليس بالأمر اليسير استقصاؤه ، ويحدّثنا التاريخ أيضا : عن استفحال أمر العيارين وكبسهم لدور الناس نهارا، وفي اللّيل بالمشاعل والموكبيات، وكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره ويستخرجونها منه بالضرب ، كما يفعل المصادرون ، ولا يجد المستغيث مغيثا مع القتل والنهب ، حتّى اُحرقت دار الشريف المرتضى قدس سره على الصراة ، وقلع هو باقيها ، وانتقل إلى درب جميل . ۸
كما نجد قبل ذلك في حوادث سنة ( ۴۲۲ ه ) إنّ دار الشريف المرتضى قدس سرهتنقب فيخرج منها مرتاعا منزعجا ، حتّى جاد جيرانه من الأتراك ، فدافعوا عنه وعن حرمه ، واُحرقت سميريتيه على أثر فتن كانت تحدث بين السنّة والشيعة . ۹
وهكذا نجد السيّد المرتضى قدس سره يموج في خضم زاخر من تلك الأحداث والفتن ، الّتي لا يبتلي بها إلاّ رؤساء القوم وعلّيتهم، هذا إذا باخت آراء الخلفاء، وسفهت أحلام الملوك، وأساء الحاكمون استعمال السلطة، واختل الأمن ، وأُخذ البريء بذنب المسيء، وسقطت هيبة السلطان ؛ لتفريطه في اُمور الرعية، وانهمك أرباب المملكة وولاة الأمر باللّذات الشخصية، وارتفعت مراقبة الدّين من قلوب المؤمنين، فلا مُحاسَب ولا مُحاسِب، فالأمر منذر حينذاك بخطر وشرّ عميم.
ومع كلّ هذا كان المرتضى رحمه الله في ذلك العصر المشحون بالفتن والشَّغب، والهمّ والنصب لايخلو من ظرف ودعابة مع أصدقائه ومعاشريه بما لايخرج عن حدود
الحشمة ومسالك الأدب، فقد اطّلع يوما من روشنه فرأى المطرز ۱۰ الشاعر قد انقطع شراك نعله ، وهو يصلحه ، فقال له: قدت ركائبك، وأشار إلى قصيدته الّتي أولها :
سرى مغرما بالعيس ينتجع الركبايسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا
على عذبات الجزع من ماء تغلبغزال يرى ماء القلوب له شربا
إذا لم تبلغني إليكم ركائبيفلا وردت ماء ولا رعت العشبا
فقال مسرعا : أتراها ما تشبه مجلسك وخلعك وشربك، أشار بذلك إلى أبيات الشريف المرتضى قدس سره الّتي منها:
يا خليلي من ذؤابة قيسفي التصابي رياضة الأخلاق
غنياني بذكرهم تطربانيواسقياني دمعي بكأس دهاق
وخذا النوم من جفوني فإنّيقد خلعت الكرى على العشاق
1. المنتظم : ج ۷ ص ۲۷۶ .
2. المنتظم : ج ۷ ص ۷۲ ـ ۷۴.
3. المصدر السابق : ج ۸ ص ۷۹ .
4. المصدر السابق : ج ۱۵ ص ۲۵۳-۲۵۴ .
5. هو أبو القاسم الحسين بن علي بن الحسن المتوفى سنة « ۴۱۸ ه » وزر لمشرف الدولة بعد أبي علي الرخجي . ( المنتظم : ج ۸ ص ۳۲ ) .
6. في المصدر : «و» والصحيح ما أثبتناه .
7. المنتظم : ج ۱۵ ص ۱۶۳ .
8. المنتظم: ج ۸ ص ۲۲ .
9. المنتظم : ج ۸ ص ۵۵ .
10. المطرز: لقب أبي القاسم عبد الواحد بن محمّد بن يحيى بن أيوب الشاعر، وكان يسكن ناحية الدجاج، المتوفى في جمادى الآخرة سنة ۴۳۹ ه ( المنتظم : ج ۸ ص ۱۳۴ ) .