نسخ الشريعة بعضها بالبعض الآخر
يعتقد الشريف المرتضى قدس سره أنّ كلّ دليل أوجب العلم والقطع واليقين فجائز النسخ به ، وأوضح مصداق لذلك هو نسخ الكتاب مع الكتاب ، ويلحق بهذا السنّة المقطوع بها مع السنّة المقطوع بها.
إنّما الكلام والبحث في السنّة الّتي لا يقطع بها ، يقول الشريف المرتضى قدس سره : « فالكلام في نسخ بعضها ببعض مبني على وجوب العمل بأخبار الآحاد فمن عمل بها في الشريعة نسخ بعضها ببعض ، ومن لم يعمل بها لم ينسخ بها ؛ لأنّ النسخ فرع وتابع لوجوب العمل ». ۱
تخصيص عموم الكتاب الكريم بالسنّة الشريفة وبأخبار الآحاد
يعتقد الشريف المرتضى قدس سره أنّه لاشبهة في تخصيص العموم بكلّ دليل أوجب العلم من عقل وكتاب وسنّة مقطوع عليها وإجماع ، ويضيف أنّ هذا لاخلاف محقّق في مثله ؛ لأنّ الدليل القاطع إذا دلّ على ضدّ حكم العام لم يجز تناقض الأدلّة ، فلابدَّ من
سلامة الدليلين ، ولا يسلمان إلاّ بتخصيص ظاهر العموم. ۲
ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره بالنسبة إلى تخصيص القرآن الكريم بالسنّة الشريفة:
«وأمّا تخصيصه بالسنّة فلاخلاف فيه ، وقد وقع كثير منه ؛ لأنّه تعالى قال: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَـدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ » ، ۳ وخصّص عموم هذا الظاهر قوله عليه السلام : «لا يرث القاتل ، ولا يتوارث أهل ملتين».
وجملة القول في هذا الباب : أنّ كلّ شيء هو حجّة في نفسه لابدّ من تخصيص العموم به ، وإنّما الخلاف في عبارة أو في وقوع ذلك ، ولا حاجة بنا إلى ذكر الوقوع في هذا الموضع ». ۴
أمّا تخصيص عموم الكتاب الكريم بأخبار الآحاد ، فيقول الشريف المرتضى قدس سره: «اختلف العاملون في الشريعة بأخبار الآحاد في تخصيص عموم الكتاب بها :
فمنهم : من أبى أن يخصّ بها على كلّ حال.
ومنهم : من جوز تخصيصه بأخبار الآحاد إذا دخله التخصيص بغيرها .
ومنهم : من راعى سلامة اللفظة في كونها حقيقة، ولم يوجب التخصيص بخبر الواحد مع سلامة الحقيقة، وأجازه إذا لم تكن سالمة، وإنّما تسلم الحقيقة عنده إذا كان تخصيصه بكلام متّصل به.
ومنهم : من يجيز تخصيص العموم بأخبار الآحاد على كلّ حال بغير قسمة.
والّذي نذهب إليه : أنّ أخبار الآحاد لايجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال، وقد كان جائزا أن يتعبّد اللّه تعالى بذلك، فيكون واجبا، غير أنّه ماتعبدنا به .
والّذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا اليه : أنّ الناس بين قائلين، ذاهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة ونافٍ لذلك، وكلّ من نفى وجوب العمل بها في الشرع نفى التخصيص بها، وليس في الاُمة من جمع بين نفي العمل بها في غير التخصيص وبين القول بجواز التخصيص، فالقول بذلك يدفعه الإجماع . وسندلّ بمشيئة اللّه تعالى ـ إذا انتهينا إلى الكلام في الأخبار ـ على أنّ اللّه تعالى ما تعبدنا بالعمل بأخبار الآحاد في الشرع، فبطل التخصيص بها لما ذكرناه، ولا شبهة في أنّ تخصيص العموم بأخبار الآحاد فرع على القول بالعمل بأخبار الآحاد .
على أنّا لو سلمنا أنّ العمل بها لاعلى وجه التخصيص واجب قد ورد الشرع به، لم يكن في ذلك دلالة على جواز التخصيص بها ؛ لأنّ إثبات العبادة بالعمل في موضع لا يقتضي تجاوزه إلى غيره . ألا ترى أنّهم لم ينسخوا بها وإن عملوا بها في غير النسخ، وكذلك يجوز ثبوت العمل بها في غير التخصيص وإن لم يثبت التخصيص ، لا ختلاف الموضعين ؛ لأنّ خبر الواحد ليس بحجّة من جهة العقل ، وإنّما كان حجّة عند من ذهب إلى ذلك بالشرع، فغير ممتنع الاختصاص في ذلك.
واعلم أنّ شبهة من أحال التعبد بالعمل بخبر الواحد في تخصيص أو غيره ـ الّتي عليها المدار ومنها يتفرع جميع الشبه ـ : أنّ العموم طريقه العلم ، فلا يجوز أن يخصّ بما طريق إثباته غالب الظن.
والّذي يفسد أصل هذه الشبهة أنّ التعبد إذا ورد بقبول خبر الواحد في تخصيص أو غيره ، فطريق هذه العبادة العلم ، دون الظن ، فإنّما خصصنا معلوما بمعلوم ، وأدلّة العقول شاهدة بذلك . وسنشبع هذا في الكلام على نفي جواز العبادة بخبر الواحد عقلاً عند الانتهاء إليه بعون اللّه [ تعالى ] .
وبعد ، فلاخلاف بين الفقهاء في جواز الرجوع إلى أخبار الآحاد في الاسم العام، فما الّذي يمنع من الرجوع إليها في الحكم المعلّق بالاسم ؟ ! ألا ترى إنّا عند
الاختلاف نثبت الأسماء بالرجوع إلى أهل اللغة، فما الّذي يمنع من الرجوع إلى الآحاد في تخصيص الأحكام ؟!
وأمّا من جوز التخصيص بأخبار الآحاد بشرط دخول التخصيص قبل ذلك ، أو بشرط سلامة الحقيقة، فشبهته في ذلك : أنّ التخصيص يصيّر اللفظ مجازا ، وقد بيّنا أنّ الأمر بخلاف ذلك». ۵
1. المصدر السابق : ج ۱ ص ۴۵۵ ـ ۴۵۶ .
2. المصدر السابق : ص ۲۷۷ ـ ۲۷۸ .
3. النساء: ۱۰.
4. الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج ۱ ص ۲۷۹ .
5. المصدر السابق : ج ۱ ص ۲۸۰ ـ ۲۸۳ .