إشكالات آرائه النادرة
ربّما تعد مخالفات الإسكافي في آرائه النادرة لمشهور الإمامية أمرا طبيعيا ؛ فإنّ له مباني خاصّة في الفقه ، وأنّه كان يحتفظ بحرية الرأي واستقلاله من دون تأثر
بفقه الآخرين واجتهاداتهم. ۱
مضافا إلى أنّ شيخنا الإسكافي قدس سره خالف رأي معاصريه ، فذهب إلى حجّية خبر الواحد ، وقد عمل بهذا الرأي ، وأستند إليه في جملة واسعة من فتواه، ۲ وأشار السيّد المرتضى قدس سره إلى وجود هذا الرأي عنده في بحث الشهادات من كتاب الانتصار. ۳ بيد أنّا لم نقف على دليل لشيخنا الإسكافي قدس سرهفي مسلكه هذا.
وعلى أي تقدير بوسعنا القول : إنّه أوّل فقيه واُصولي من الإمامية يؤمن بحجّية خبر الواحد بشكل مطلق، ومن ثمّ انفتح الباب على مصراعيه لدى باقي الاُصوليين ، فآمنوا أيضا بذلك، وصار هو الرأي السائد والمشهور لديهم. ۴
ولا بدَّ من وقفة مع هذه الإشكالات ؛ لأنّ الفقيه الإسكافي لم يكن محدثا صرفا ـ بالمعنى المعهود لاصطلاح المحدث ـ إذا كانت طريقته تختلف عن طريقه مدرسة الحديث وفقهها ، فلم يكن ينظر إلى الحديث على أنّه كلّ شيء ؛ لتكون غايته في ضبطه وجمعه حسب ؛ ولذا لم نعهد له مؤلّفا في الحديث.
بيد أنّ هذا لا يعني انقطاعه عن هذا العلم ، كيف ؟ ! وقد كان له شيوخ وطرق في الرواية، كما أنّ له روايات أسندها الفقهاء إليه نقلاً عن كتبه ، وفيها ما ينحصر طريقه به ، ولم ترد به الرواية عن غيره. ۵
وقد ذكرنا نقول فقهائنا قدس سره حول روايات هذا الفقيه خصوصاً ما نقل عن الشهيد
الأوّل قدس سرهوما نقله الشريف المرتضى قدس سره عنه من النقول بأسانيد متّصلة إلى أئمة العصمة والطاهرة عليهم السلام حيث نقل الشريف المرتضى قدس سره ، عن ابن الجنيد ، عن ابن محبوب ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قضى أن يتقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام. ۶
وقال السيّد المرتضى قدس سره في كتابه الانتصار : «قال ابن الجنيد : إلاّ أنّ ابن محبوب فسّر ذلك ـ أي الحديث السابق ـ في حديث رواه عن عبداللّه بن سنان ، عن أبي عبداللّه عليهم السلام أنّه قال: إذا تقدّمت مع خصم إلى والٍ أو قاضٍ فكن عن يمينه». ۷ فعبارة الشريف المرتضى قدس سرهبالنسبة إلى الفقيه الإسكافي قدس سرهفيها نوع تسامح.
وقد كرّر الشريف المرتضى قدس سره نقضه على الإسكافي في مواضع مختلفة :
أ ـ قال الشريف المرتضى قدس سره: وممّا انفردت به الإمامية : القول بأنّ الإبل إذا بلغت خمساً وعشرين ففيها خمس شياه ؛ لأنّ باقي الفقهاء يخالفون في ذلك ، ويوجبون في خمس وعشرين ابنة مخاض . . . .
فإن قيل: قد خالفها أبو علي بن الجنيد في ذلك ، وقال: إنّ في خمس وعشرين ابنة مخاض . . . .
قلنا: إجماع الإمامية قد تقدّم ابن الجنيد وتأخّر عنه،وإنّما عول ابن الجنيد في هذا المذهب على بعض الأخبار المروية عن أئمتنا عليهم السلام ،ومثل هذه الأخبار لايعوّل عليها. ۸
ب ـ قال الشريف المرتضى قدس سره: وممّا انفردت به الإمامية: القول بأنّ مَن فرّ بدراهم أو بدنانير من الزكاة فبَكها أو أبدل في الحول جنساً بغيره هرباً من وجوب الزكاة ، فإنّ الزكاة تجب عليه ، إذا كان قصده بما فعله الهرب منها، وإن كان له غرض آخر
سوى الفِرار من الزكاة فلا زكاة عليه....
فإن قيل : قد ذكر أبو علي ابن الجنيد أنّ الزكاة لا تلزم الفار منها ببعض ما ذكرناه .
قلنا : . . . إنّما عوّل ابن الجنيد على أخبار رويت عن أئمتنا عليهم السلام تتضمّن أنّه لا زكاة عليه وإن فرّ بما له . وبإزاء تلك الأخبار ما هو أظهر وأقوى وأولى وأوضح طريقاً تتضمّن أنّ الزكاة تلزمه. ۹
وأصرح من هذين النصّين:
ج ـ قال الشريف المرتضى قدس سره في مسألة بيع الوقت: لا اعتبار بابن الجنيد . . . وإنّما عوّل في ذلك على ظنون وحسبان وأخبار شاذة لا يلتفت إلى مثلها. ۱۰
فنسبة القول إليه على الظنون والحسبان والأخبار الشاذة هو نوع من تسطيع الوعي عن ابن الجنيد .
د ـ وكذلك الأمر بالنسبة إلى الزكاة وأنّها واجبة في جميع الحبوب الّتي تخرجها الأرض ، وإن زادت على التسعة الأصناف ، وأنّه روى في ذلك أخباراً كثيرة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام .
يقول الشريف المرتضى قدس سره: لا اعتبار بشذوذ ابن الجنيد.... ۱۱
وفي نصّ آخر يجرح الشريف المرتضى قدس سره أكثر بالفقيه ابن الجنيد وينسبه إلى الغلط الفحش قائلاً :
«وكان أبو علي بن الجنيد من جملة أصحابنا يمتنع من شهادة العبد وإن كان عدلاً، ولمّا تكلّم على ظواهر الآيات في الكتاب الّتي تعمّ العبد والحر ادّعى
تخصيص الآيات بغير دليل، وزعم أنّ العبد من حيث لم يكن كف ءً للحرّ في دمه ، وكان ناقصاً عنه في أحكامه لم يدخل تحت الظواهر.
وقال أيضاً: إنّ النساء قد تكنّ أقوى عدالة من الرجال ، ولم تكن شهادتهنّ مقبولة في كلّ ما يقبل فيه شهادة الرجال .
يقول الشريف المرتضى قدس سره : وهذا منه غلط فاحش ؛ لأنّه إذا ادّعى أنّ الظواهر اختصّت بمن تتساوى أحكامه في الأحرار كان عليه الدليل؛ لأنّه ادّعى ما يخالف الظواهر، ولا يجوز رجوعه في ذلك إِلى أخبار الآحاد الّتي يرويها؛ لأنّا قد بيّنا ما في ذلك.
فأمّا النساء فغير داخلات في الظواهر الّتي ذكرناها مثل قوله تعالى: « ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ » ۱۲ ، وقوله تعالى: « شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ » ۱۳ فما أخرجنا النساء من هذه الظواهر ؛ لأنهنّ ما دخلن فيها ، والعبيد العدول داخلون فيها بلا خلاف ، ويحتاج في إخراجهم إلى دليل». ۱۴
نلاحظ في هذا النصّ المذكور ـ الّذي نقله الشريف المرتضى قدس سره ـ إنّ الإسكافيقام بتخصيص العمومات الكتابية ، مثل قوله تعالى: « ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ » وقوله تعالى: « شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ » بنكتة استفادها من الأخبار المروية في العبد ، وأنّه لا يساوي الحرّ في أحكامه ، ولذا افتى بخروجه من هذه العمومات ، وبعدم قبول شهادته .
ويستفاد من هذا النصّ أيضا مسلكه في تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد الأمر الّذي رفضه غيره من الاُصوليين .
ولا يتبادر إلى ذهن القارئ من كلمة المحدثين هو : شمول البحث لوالد الشيخ الصدوق قدس سرهالمعروف بابن بابويه ـ مثلاً ـ وأشباهه الّذي يعدّ من المحدثين .
وهذا واضح من السؤال الّذي سئل به الشريف المرتضى قدس سره :
ما يشكل علينا من الفقه نأخذه من رسالة علي بن موسى بن بابويه القمّي ، أو من كتاب الشلمغاني ، أو من كتاب عبيداللّه الحلبي؟
فأجاب الشريف المرتضى قدس سره: «الرجوع إلى كتاب ابن بابويه وإلى كتاب الحلبي ۱۵ أولى من الرجوع إلى كتاب الشلمغاني على كلّ حال». ۱۶
ويعتبر هذا النصّ من الشريف المرتضى قدس سره بمثابة منهج اعتمده على كتب الحديث الّذي يتماشى مع المعروف ، من أنّ الأصحاب إذا أعوزتهم النصوص رجعوا إلى رسالة علي بن بابويه ؛ لأنّها بمثابة الحديث المأثور.
وعلى كلّ لا يعتبر الفقيه ابن بابويه من عداد أصحاب الحديث الصرف ، وكذلك ابنه الجليل الفقيه الشيخ الصدوق قدس سره ؛ فإنّه قد ذكره الشريف المرتضى قدس سرهفي عدّة مواضع ، وذكر كتابه كتاب من لا يحضره الفقيه ، نعم ، في موضع واحد خدش في التفاته الفقهي ، بأنّ الأولى عليه أن يذكر بعض الروايات من الطرف المقابل مع أنّها موجودة في كتابه هذا. ۱۷
1. انظر : مقالة الشيخ الخزرجي حول الفقيه الإسكافي في مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام العدد ( ۱۰ ) ص ۲۲۹ ـ ۲۳۰ .
2. انظر على سبيل المثال : الانتصار : ص ۲۴۷ ، مختلف الشيعة : ج ۷ ص ۳۵ و ج ۲ ص ۱۷۱ ، ۳۰۷ و ج ۳ ص ۴۴ .
3. الانتصار : ص ۲۴۷ .
4. انظر مقالة الفاضل الخزرجي ، (المصدر السابق) : ص ۲۲۷.
5. انظر المصدر السابق : ص ۲۲۸ .
6. الانتصار : ص ۲۴۴.
7. المصدر السابق.
8. المصدر السابق : ص ۲۱۴ ـ ۲۱۵.
9. المصدر السابق : ص ۲۱۹ ـ ۲۲۰ .
10. المصدر السابق : ص ۴۷۰ .
11. المصدر السابق : ص ۲۱۰ .
12. الطلاق : ۲.
13. البقرة : ۲۸۲.
14. الانتصار : ص ۵۰۰ ـ ۵۰۱.
15. يشير صاحب الجواهر رضى الله عنه إلى هذا المقطع ، قال: «الشيخ الثقة الجليل الفقيه عبيد اللّه بن علي بن أبي شعبة الحلبي في أصله الّذي أثنى عليه الصادق عليه السلام عند عرضه عليه وصحّحه واستحسنه ، وقال: «إنّه ليس لهؤلاء ـ أي المخالفين ـ مثله» وعدّه الصدوق . من الكتب المشهورة الّتي عليها المعول وإليها المرجع ، بل أمر المرتضى بالرجوع إليه وإلى رسالة ابن بابويه مقدما لهما على كتاب الشلمغاني ، لمّا سُئل عن أخذ ما يتشكل من الفقه من هذه الثلاثة». ( جواهر الكلام : ج ۱۳ ص ۵۸) .
16. جوابات المسائل الميافارقيات : ص ۲۷۹ ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).
17. جوابات المسائل الموصليات الثانية : ص ۱۷۶ ـ ۱۸۰ ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الاُولى ) .