الفصل الأوّل : مكاتيبه
مكاتيبه عليه السلام
۱
كتابُه عليه السلام في الزُّهد
۰.محمّد بن يحْيى ، عن أحمدَ بن محمّد بن عيسى وعليِّ بن إبراهيم ، عن أبيه جميعاً عن الحسن بن مَحْبُوبٍ ، عن مالك بن عطيَّة ، عن أبي حمزة ، قال : ما سمعْتُ بأحدٍ من النَّاس كان أزْهَدَ من عليِّ بن الحسين عليهماالسلام إلاّ ما بلغني من عليِّ بن أبي طالبٍ عليه السلام .
قال أبو حمزة : كان الإمامُ عليُّ بن الحسين عليهماالسلام إذا تكَلَّم في الزُّهد ووَعَظ أبْكَى مَن بحضْرته .
قال أبو حمزة : وقرأْتُ صحيفةً فيها كلامُ زهْد من كلام عليّ بن الحسين عليهماالسلام ، وكتَبْتُ ما فيها ثُمَّ أتيْت عليَّ بن الحُسَيْنِ صلوات اللّه عليه فعَرَضْتُ ما فيها عليْه ، فعَرَفَه وصحَّحَه وكان ما فيها :بسم اللّه الرحمن الرَّحيم .
كَفانا اللّه ُ وإيَّاكُم كَيْدَ الظَّالمينَ ، وَبغيَ الحاسدينَ ، وَبَطشَ الجبَّارينَ .
أيُّها المُؤمنونَ لا يَفتِنَنَّكمُ الطَّواغيتُ ، وأتباعُهُم مِن أهلِ الرَّغبَةِ في هذه الدُّنيا ، المائِلونَ إليها ، المُفْتَتِنونَ بها المُقبِلونَ عليها وعلى حُطامِها الهامدِ ، وهَشيمِها البائِدِ غداً ، و احْذَروا ما حَذَّركُمُ اللّه ُ مِنها ، وازْهدوا فيما زهَّدكم اللّه ُ فيهِ مِنها ، ولا تَرْكَنوا إلى ما في هذه الدُّنيا رُكُونَ مَنِ اتَّخَذَها دارَ قَرارٍ ومَنزِلَ اسْتِيطانٍ .
واللّه ِ إنَّ لكُم ممَّا فيها عَلَيها لدَليلاً وتَنْبِيهاً ، مِن تَصريفِ أيَّامِها وتَغيُّرِ انْقِلابِها ومَثُلاتِها و تَلاعُبِها بأهلها ، إنَّها لَتَرْفَعُ الخَمِيلَ ، وتَضَعُ الشَّريفَ ، وتُورِدُ أقواماً إلى النَّار غداً ؛ ففي هذا مُعْتَبَرٌ ، ومُخْتَبَرٌ ، وزاجِرٌ لِمُنتبِهٍ ، إنَّ الأمورَ الوارِدَةَ عَلَيكُم في كُلّ يومٍ ولَيلَةٍ مِن مُظلِماتِ الفِتَنِ ، وحَوادِثِ البِدَعِ ، وسُنَنِ الجَوْرِ ، وبَوائِقِ الزَّمانِ ، وهَيْبةِ السُّلطانِ ، ووسْوسَةِ الشَّيطانِ ، لَتُثبِّطُ القلوبَ عن تنبُّهِها ، وتذْهِلُها عن موجودِ الهُدَى ، ومعرفَةِ أهلِ الحَقّ إلاّ قليلاً مِمَّنْ عَصَمَ اللّه ُ ، فَلَيسَ يعرِفُ تصَرُّفَ أيَّامِها ، وتَقَلُّبَ حالاتِها ، وعاقِبةَ ضرَرِ فتْنتِها إلاّ مَن عَصَمَ اللّه ُ ، ونَهَجَ سبيلَ الرُّشدِ ، وسَلكَ طَريقَ القَصدِ ؛ ثُمَّ اسْتعانَ على ذلك بالزُّهدِ ، فكرَّرَ الفكرَ ، واتَّعظَ بالصَّبرِ ، فازْدَجر ، وزهِدَ في عاجِلِ بَهْجةِ الدُّنيا وتجافى عَن لذَّاتِها ، ورَغِبَ في دائِمِ نَعيمِ الآخِرةِ ، وسَعى لها سَعْيَها وراقَبَ المَوتَ ، وشَنأ الحَياةَ معَ القَوْمِ الظَّالِمينَ . نظَر إلى ما في الدُّنيا بعَيْنٍ نَيِّرةٍ حَديدَةِ البَصَرِ ، وأبْصَرَ حَوادِثَ الفِتَن ، وضلالَ البِدَعِ ، وجَوْرَ المُلوكِ الظَّلَمَةِ .
فَلقَد لَعَمري استَدبرتُمُ الاُمورَ الماضِيَةَ في الأيَّامِ الخالِيَةِ مِنَ الفِتَنِ المُترَاكِمَةِ ، والاِنهِماكِ فيما تَسْتَدلُّونَ بِهِ على تَجنُّبِ الغُواةِ وأهلِ البِدَعِ والبَغيِ والفَسادِ في الأرضِ بِغَيرِ الحَقِّ ، فاسْتعينوا باللّه ِ ، وارجِعوا إلى طاعَةِ اللّه ِ ، وطاعَةِ مَن هُوَ أولى بِالطَّاعَةِ مِمَّن اتُّبِعَ فأُطيعُ .
فالحَذَرَ الحَذَرَ مِن قَبلِ النَّدامَةِ والحَسرَةِ ، والقُدومِ عَلى اللّه ِ ، والوُقوفِ بَينَ يَدَيهِ .
وتاللّه ِ ما صَدَرَ قَوْمٌ قطُّ عَن مَعصِيةِ اللّه ِ إلاّ إلى عَذابِهِ ، وَ ما آثر قَومٌ قطُّ الدُّنيا على الآخِرةِ إلاّ سَاءَ مُنقلَبُهُم ، وَساءَ مَصيرُهُم ، وما العِلمُ باللّه ِ والعَمَلُ إلاّ إلْفانِ مُوْتَلِفانِ ، فمَن عرَفَ اللّه َ خافَهُ وحثَّهُ الخَوفُ على العَمَلِ بِطاعَةِ اللّه ، وإنَّ أربابَ العِلمِ وأتباعَهُم ، الَّذينَ عَرَفوا اللّه َ فَعَمِلوا لَهُ ورَغِبوا إليهِ ، وَقَد قالَ اللّه ُ : «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ » ۱ .
فلا تَلتَمِسوا شَيئاً مِمَّا في هذه الدُّنيا بِمعصِيَةِ اللّه ِ ، واشتغِلوا في هذهِ الدُّنيا بِطاعَةِ اللّه ِ ، واغتنِموا أيَّامَها ، واسعَوا لما فيهِ نَجاتُكُم غَداً مِن عَذابِ اللّه ِ ، فإنَّ ذلك أقلُّ لِلتَّبِعَةِ ، وأدنى مِنَ العُذرِ ، وأرجى لِلنَّجاةِ ، فقَدِّموا أمرَ اللّه ِ ، وطاعَةَ مَن أوجَبَ اللّه ُ طاعَتَهُ بَينَ يَدَي الاُمورِ كُلِّها ، ولا تُقدِّموا الاُمورَ الوارِدَةَ عَلَيكُم مِن طاعَةِ الطَّوَاغيتِ مِن زَهرَة الدُّنيا بين يَدَي اللّه ِ وطاعَتِهِ ، وطاعَةِ أُولي الأمرِ مِنكُم ، واعلَموا أنَّكُم عَبِيدُ اللّه ِ ونَحنُ مَعَكُم يَحكُمُ عَلَينا و عَلَيكُم ، سَيِّدٌ حَاكِمٌ غَداً وهُوَ مُوقِفُكُم ومُسائِلُكُم ؛ فأعِدُّوا الجَوابَ قَبلَ الوقوفِ والمُساءَلَةِ والعَرضِ على رَبِّ العالَمينَ ، يَومَئِذٍ لا تَكَلَّمُ نفسٌ إلاّ بإذنِه .
واعلَموا أنَّ اللّه َ لا يُصَدِّقُ يَومئذٍ كاذِباً ، ولا يُكَذِّبُ صادِقاً ، ولا يَرُدُّ عُذرَ مُستَحِقٍّ ، ولا يَعذِرُ غيرَ مَعذورٍ ، لهُ الحُجَّةُ على خَلقِهِ بالرُّسُلِ ، والأوصِياءِ بَعدَ الرُّسُلِ .
فاتَّقوا اللّه َ عبادَ اللّه ِ ، واستَقْبِلوا في إصلاحِ أنفُسِكُم ، وطاعَةِ اللّه ِ ، وطاعَةِ مَن تَولَّونَهُ فيها ، لعلّ نادِماً ، قَد نَدِمَ فيما فرَّطَ بالأمسِ في جَنبِ اللّه ِ ، وضَيَّع من حُقوقِ اللّه ِ ، واستغفِروا اللّه َ ، و توبوا إليهِ ، فإنَّهُ يَقبَلُ التَّوبةَ ، ويَعفو عَنِ السَّيِّئةِ ، ويَعلمُ ما تَفعَلونَ .
وإيَّاكم وصُحبَةَ العاصينَ ، ومَعونَةَ الظَّالِمينَ ، ومُجاوَرَةَ الفاسِقينَ ، احذَروا فِتْنتَهُم ، وتَباعَدوا من ساحَتِهِم ، واعلَموا أنَّهُ مَن خَالَفَ أولِياءَ اللّه ِ ودَانَ بِغَيرِ دِينِ اللّه ِ ،
واستَبدَّ بأمرِهِ دُونَ أمرِ وليِّ اللّه ِ ، كانَ في نارٍ تَلتَهِبُ ، تَأكلُ أبداناً قَد غابَت عنها أرواحُها ، وغَلَبَتْ عَلَيها شِقوَتُها ، فَهُم مَوتى ، لا يَجِدونَ حَرَّ النَّارِ ، وَلَو كانوا أحياءً لوَجَدوا مَضَضَ حَرِّ النَّارِ .
واعتَبِروا يا اُولي الأبصارِ ، واحمَدوا اللّه َ على ما هداكُم ، واعلَمُوا أنَّكُم لا تَخرُجونَ مِن قُدرةِ اللّه ِ إلى غَيرِ قُدرَتِهِ ، وسَيرى اللّه ُ عَمَلَكُم ورَسولُه ، ثُمَّ إليه تُحشَرونَ ، فانتفِعوا بالعِظَةِ ، وتَأدَّبُوا بآدابِ الصَّالحينَ . ۲