۶
وصيّته عليه السلام لمحمّد بن الحنفيّة
حين عزم عليه السلام الخروج من المدينة إلى مكّة
في مقتل الحسين :
۰.قال : خرج الحسين عليه السلام من منزله ذات ليلة وأتى قبر جدِّه صلى الله عليه و آله فقال :السَّلامُ عَلَيكَ يا رَسولَ اللّه ِ ، أنا الحُسينُ بنُ فاطِمَة فَرخُكَ وابنُ فَرخَتِكَ ، وسِبطُكَ والثِّقلُ الَّذي خَلَّفتَهُ في أُمَّتِكَ . فاشهَد عَلَيهِم يا نَبيَّ اللّه ِ أنَّهُم قَد خَذَلوني ، وَضَيَّعوني ، وَلَم يَحفَظوني ، وَهذهِ شَكوايَ إلَيكَ حتَّى ألقاكَ صَلّى اللّه ُ عَلَيكَ ، ثُمَّ صفَّ قَدَميهِ فَلَم يَزل راكِعاً ساجِداً .
قال : وأرسل الوليدُ بن عُتْبة إلى منزلِ الحسين[ عليه السلام ] لينظر أخرَجَ مِنَ المَدينَةِ أم لا ، فلم يصب في منزله ،فقال :مكاتيبه في عهد يزيد
الحمدُ للّه ِ إذ خرَجَ وَلَم يَبتَلِني اللّه ُ في دَمِهِ .
قال : ورجَعَ الحسينُ إلى مَنزلِهِ عِندَ الصُّبح . . .
فلمَّا كانت اللَّيلة الثَّالثة ، خرج إلى القبر أيضاً فصلَّى ركعات ، فلمَّا فرغ من صلاته جعل يقول :
اللَّهمَّ إنَّ هذا قبرُ نبيِّك مُحمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وأنا ابنُ بنتِ نَبيِّكَ ، وَقد حضَرني مِنَ الأمرِ ما قَد عَلِمتَ ، اللَّهمَّ إنِّي أُحِبُّ المَعروفَ ، وأُنكِرُ المنكَرَ ، وَأَنا أسأَلُكَ يا ذا الجَلالِ وَالإكرامِ بِحَقِّ هذا القَبرِ وَمَن فيهِ إلاَّ اختَرتَ لِي مِن أمري ما هوَ لَكَ رِضىً ، ولِرَسولِكَ رِضىً ، ولِلمُؤمِنينَ رِضَىً .
ثمَّ جعل يبكي عند القبر حتَّى إذا كان قريباً من الصُّبح ، وضع رأسه على القبر فأغفى ، فإذا هو برسول اللّه قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه ومن خلفه فجاء حتَّى ضمَّ الحسين إلى صدره وقبَّل بين عينيه وقال :
حَبيبي يا حسينُ كأنِّي أَراكَ عَن قَريبٍ مُرَمَّلاً بِدِمائِكَ ، مَذبوحاً بِأَرضِ كَربلاء ، بين عِصابَةٍ من أُمَّتي ، وَأنتَ معَ ذلِكَ عَطشانُ لا تُسقى ، وَظَمآنُ لا تُروى ، وَهُم في ذلِكَ يَرجونَ شَفاعَتي ، مالَهُم ؟ لا أَنالَهُمُ اللّه ُ شَفاعَتي يَومَ القِيامَةِ . وما لَهُم عِندَ اللّه ِ مِن خَلاقٍ .
حبيبي يا حسينُ إنَّ أباكَ وَأُمَّكَ وأَخاكَ قَدِموا علَيَّ وَهُم إلَيكَ مُشتاقونَ ، وإنَّ لَكَ في الجَنَّةِ لَدَرجاتٌ لَن تنالَها إلاَّ بالشَّهادَةِ .
قال : فجعل الحسين[ عليه السلام ] في منامه ينظر إلى جدِّه محمَّد صلى الله عليه و آله ، ويَسمَعُ كلامَهُ ويَقولُ لَه :
يا جَدَّاهُ لا حاجَةَ لي في الرُّجُوعِ إلى الدُّنيا ، فَخُذني إلَيكَ وَأدخِلني مَعَكَ إِلى قَبرِكَ .
فقال له النبيُّ صلى الله عليه و آله : يا حُسينُ لابدَّ لَكَ مِنَ الرُّجوع إلى الدُّنيا حتَّى تُرزَقَ الشَّهادَةَ ، وما قَد كَتَبَ اللّه ُ لَكَ فيها مِنَ الثَّوابِ العَظيمِ ، فَإنَّكَ وأباكَ وأَخاكَ وعَمَّكَ وَعَمَّ أَبيكَ تُحشَرونَ يَومَ القِيامَةِ فِي زُمرَةٍ واحِدَةٍ ، حتَّى تَدخلوا الجَنَّةَ .
قال : فانتبه الحسين[ عليه السلام ] من نومه فزعاً مرعوباً فقصَّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطَّلب ، فلم يكن في ذلك اليوم في شرق ولا غرب قوم أشدَّ غمَّاً من أهل بيت رسول اللّه [ صلى الله عليه و آله ] ، ولا أكثر باكياً ولا باكية .
قال : وتهيَّأ الحسين عليه السلام وعزم على الخروج مِنَ المدينَةِ ، ومضى في جوف اللَّيل إلى قبر أُمّه فصلّى عِندَ قبرها وودَّعها ، ثُمَّ قامَ من قبرِها وصار إلى قبر أخيهِ الحَسَنِ عليه السلام ، ففعل كذلِكَ ، ثُمَّ رجَعَ إلى مَنزلِهِ في وَقتِ الصُّبحِ ، فأقبل إليهِ أخوهُ مُحمَّدُ بنُ الحَنَفيَّةِ فقال لَهُ :
يا أخي ، فَديتُكَ نفسي أنتَ أحَبُّ النَّاسِ إليَّ ، وَأعزُّهم عَلَيَّ ، وَلَستُ واللّه ِ ، أدَّخِرُ النَّصيحَةَ لِأَحَدٍ مِنَ الخَلقِ ، وَلَيسَ أحَدٌ أحَقَّ بها مِنكَ ، لأنَّكَ مِزاجُ مائي وَنَفسي وروحي وَبَصَري وَكَبيرُ أهلِ بَيتي ، وَمن وجَبَ طاعَتُهُ في عُنُقي ، لِأنَّ اللّه َ تبارَكَ وَتَعالى قَد شَرَّفَكَ وَجَعَلكَ مِن ساداتِ أهلِ الجَنَّةِ . إنِّي أُريدُ أن أُشيرَ عَلَيكَ فاقبَل مِنَّي .
فقال له الحسين عليه السلام : قُل يا أَخي ما بَدا لَكَ .
فقال : أُشير عَلَيكَ أن تَتَنحَّى بِنَفسِكَ عَن يَزيدِ بنِ مُعاوِيَة ، وعَنِ الأمصارِ ما استَطعتَ ، وأَن تَبعَثَ رُسلَكَ إلى النَّاسِ فَتَدعوهُم إلى بَيعَتِكَ ، فَإن بايَعَكَ النَّاسُ حَمِدتَ اللّه َ عَلى ذلِكَ وقُمتَ فيهم بِما كانَ يَقومُهُ رَسولُ اللّه ِ وَالخُلفاءُ الرَّاشِدونَ المَهديُّونَ من بَعدِهِ ، حتَّى يَتوفّاكَ اللّه ُ وهو عَنكَ راضٍ ، وَالمُؤمِنونَ عَنكَ راضونَ ، كما رَضوا عَن أَبيكَ وأَخيكَ ، وإن اجتَمَعَ النَّاسُ عَلى غَيرِكَ حَمِدتَ اللّه َ عَلى ذلِكَ وَسَكَتَّ وَلَزِمتَ مَنزِلَكَ ، فَإنِّي خائِفٌ عَلَيكَ أن تَدخُلَ مِصراً مِنَ الأَمصارِ ، أو تأتيَ جَماعَةً مِنَ النَّاسِ فَيَقتَتِلونَ ، فَتَكونُ طائِفَةٌ مِنهُم مَعَكَ ، وَطائِفَةٌ عَلَيكَ فَتُقتَلُ بَينَهُم .
فقال له الحسين : يا أخي فَإلى أينَ أذهَبُ؟
قال : تَخرُجُ إلى مَكَّة فَإن اطمأنَّت بِكَ الدَّارُ بِها فَذاكَ الَّذي تُحِبُّ ، وَإن تَكُنِ الأُخرى خَرَجتَ إلى بِلادِ اليَمنِ ، فَإنَّهم أنصارُ جَدِّكَ وَأبيكَ وَأخيكَ ، وَهُم أرأَفُ وَأرَقُّ قُلوباً ، وأوسَعُ النَّاسِ بِلاداً ، وأرجحهم عُقولاً ؛ فَإنِ اطمَأنَّت بِكَ أرضُ اليَمن فذاكَ ، وَإلاَّ لحَقتَ بالرِّمالِ وشُعوبِ الجِبالِ ، وَصِرتَ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ ، حَتَّى تَنظُرَ ما يؤولُ إلَيهِ أمرُ النَّاسِ ، وَيَحكُمَ اللّه ُ بَينَنا وَبَينَ القَومِ الفاسِقينَ .
فقال لَهُ الحسينُ عليه السلام : ياأخي وَاللّه ِ لَو لَم يَكُنْ مَلجَأٌ ، وَلا مَأوى لَما بايَعتُ يَزيدَ بنَ مُعاوِيَة ، فَقَد قالَ النبيُّ صلى الله عليه و آله : اللّهم لا تُبارِك في يَزيدَ . فقطع محمَّد الكلام وبكى ، فبكى معه الحسين عليه السلام ساعةً ، ثمَّ قال :
ياأخي جَزاكَ اللّه ُ عَنِّي خَيراً ، فَلَقَد نَصَحتَ وَأَشرتَ بالصَّوابِ ، وَأَرجوا أنْ يَكونَ رأيُك مُوفَّقاً مُسَدَّداً ، وأنا عازِمٌ عَلى الخُروجِ إلى مَكَّةَ ، وَقَد تَهيّأتُ لِذلِكَ أنا وَإخوَتي وبَنو أخي وَشِيعَتي مِمَّن أَمرُهُم أَمري وَرَأيُهم رَأيي .
وَأَمَّا أنتَ يا أَخي فَلا عَلَيكَ أنْ تُقيمَ فِي المَدِينَةِ ، فَتَكونُ لِي عَيناً عَلَيهِم ، وَلا تُخفِ علَيَّ شيئاً مِن أُمورِهم .
ثمَّ دعا الحُسينُ عليه السلام بِدَواةٍ وبَياضٍ ، وكتَبَ هذه الوَصِيَّةَ لأخيهِ مُحَمّد :
بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم
هذا ما أوصى بهِ الحُسينُ بنُ عليٍّ بنِ أبي طالِبٍ إلى أَخيهِ مُحَمَّدِ بنِ عليٍّ المعروف بابن الحنَفيَّةِ :
إنَّ الحُسَينَ بنَ عَلِيٍّ يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللّه ُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسولُهُ ، جاءَ بالحَقِّ مِن عِندِ الحَقِّ ، وَأَنَّ الجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقٌّ ، وَأنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيبَ فيها ، وأنَّ اللّه َ يَبعَثُ مَن فِي القُبورِ ، إنِّي لَم أخرُج أشِرَاً ولا بَطِراً ، وَلا مُفسِداً ، وَلا ظالِماً ، وَإنَّما خَرَجتُ أطلُبُ الإصلاحَ في أُمَّةِ جَدِّي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، أُريدُ أنْ آمُرَ بالمَعروفِ ، وَأنْهى عَنِ المُنكَرِ ، وَأَسِير بسِيرَةِ جَدِّي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وَسيرَةِ أبي عليِّ بنِ
أبي طالِبٍ[ عليه السلام ] ، ۱ فمَن قَبِلَني بِقَبولِ الحَقِّ فَاللّه ُ أوْلى بِالحَقِّ ، وَمَن رَدَّ علَيَّ هذا صَبَرتُ حتَّى يَقضِيَ اللّه ُ بَيني وبَينَ القَومِ بِالحَقِّ ، ويَحكُمَ بَيني وَبَينَهُم وَهُو خَيرُ الحاكِمينَ ؛ وَهذهِ وَصِيَّتي يا أَخي ، وما تَوفيقي إلاَّ باللّه ِ ، عَلَيهِ تَوكَّلتُ وإلَيهِ أُنيبُ ، والسَّلامُ عَلَيكَ وعَلى مَنِ اتَّبعَ الهُدى ، وَلا قوَّة إلاَّ باللّه العليّ العظيم .
قال : ثُمّ طوى الحسين كتابه هذا وختمه بخاتمه ، ودفعه إلى أخيه محمَّد ، ثمّ ودَّعه ، وخرج في جوف اللَّيل ، يُريد مكَّة في جميع أهل بيته ، وذلك لثلاث ليال مضين من شهر شعبان في سنة ستّين ۲ ؛ فلزم الطَّريق الأعظم فجعل يسير وهو يتلو هذه الآية : «فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » ۳ . ۴
1. زاد في الفتوح، و مقتل الحسين : «وسيرة الخلفاء الرَّاشدين» .
2. وفيالطّبري : « خرج ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب » .
3. القصص : ۲۱ .
4. مقتل الحسين للخوارزميّ :ج۱ ص ۱۸۶ ، الفتوح : ج ۵ ص ۲۱ نحوه وراجع : الإرشاد : ج ۲ ص ۳۳ ، المناقب لابن شهرآشوب : ج ۴ ص ۸۹ ، بحار الأنوار : ج ۴۴ ص ۳۲۹ ، نفس المهموم : ص ۳۸ ، معالي السّبطين : ج ۱ ص ۲۱۲ .