السادس
ثُمّ قالوا : مال عقيل بعد ذلك ـ أي بعد حرب هوازن وبعد ردّه الإبرة الّذي أخذها من المغنم بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ـ إلى حبّ المال والكسب، لمّا رأى النّاس قد مالوا إلى ذلك ... . ۱
وفي مكان آخر: غاضب عقيل عليّا وخرج إلى معاوية. ۲
وفي رواية: من المفارقين لعليّ عليه السلام أخوه عقيل بن أبي طالب . ۳
وذكروا أنّ عقيل بن أبي طالب قدم على أخيه عليّ بالكوفة، فقال له عليّ: «مرحبا بك وأهلاً، ما أقدمك يا أخي؟»
قال : تأخّر العطاء عنّا وغلاء السّعر ببلدنا، وركبني دين عظيم، فجئت لتصلني.
فقال عليّ :« واللّه ما لي ممّا ترى شيئا إلاّ عطائي، فإذا خرج فهو لك».
فقال عقيل : وإنّما شخوصي من الحجاز إليك من أجل عطائك ؟ وماذا يبلغ منّي عطاؤك؟ وما يدفع من حاجتي؟
فقال عليّ : «فمه! هل تعلم لي مالاً غيره؟ أم تريد أن يحرقني اللّه في نار جهنّم في صلتك بأموال المسلمين؟».
فقال عقيل : واللّه ، لأخرجنّ إلى رجل هو أوصل لي منك (يريد معاوية). فقال له عليّ : راشدا مهديّا . ۴
وإنّه استأذن أخاه فأذن له . ۵
فارق أخاه عليّا في أيّام خلافته، وهرب إلى معاوية وشهد صفّين معه غير أنّه لم يقاتل، ولم يترك نصح أخيه والتعصب له . ۶
وفي مكان آخر، قال عقيل: ما عندك غير هذا؟ قال : «لا»، فلحق معاوية وقال: واللّه ، لأذهبن إلى من يعطيني تبرا ويطعمني برّا، ثُمّ فارقه وتوجّه إلى معاوية. ۷
وفي رواية أُخرى، قال : لآتين معاوية.
قال : «أنت وذاك»، فسار إلى معاوية . ۸
وذلك كلّه فأقام عقيل مع معاوية بالشّام، وشهد صفّين فكان لحوق معاوية قبل حرب صفّين، هو بعد حرب الجمل أو في أثنائه ۹ ، أو رجع فورا ولم يقم عنده . ۱۰
ولا بأس بنقل ما جرى بينه وبين معاوية بعد مغاضبته عليّا عليه السلام ومفارقته إيّاه، ثُمّ ننظر إلى الحقّ من خلال ذلك :
ما عن المناقب : قدم عليه عقيل ، فقال للحسن: «اكس عمّك»، فكساه قميصا من قميصه ورداءً من أرديته، فلمّا حضر العشاء فإذا هو خبز وملح.
فقال عقيل : ليس ما أرى.
فقال : «أوليس هذا من نعمة اللّه فله الحمد كثيرا؟»
فقال : اعطني ما أقضي به ديني، وعجّل سراحي حتّى أرحل عنك.
قال: «فكم دينك يا أبا يزيد».
قال : مئة ألف درهم.
قال : «واللّه ما هي عندي ولا أملكها، ولكن اصبر حتّى يخرج عطائي فأُواسيكه، ولولا أنّه لابدّ للعيال من شيء لأعطيتك كلّه».
فقال عقيل: بيت المال في يدك، وأنت تسوفني إلى عطائك، وكم عطاؤك وما عسى يكون، ولو أعطيتنيه كلّه.
فقال : «ما أنا وأنت فيه إلاّ بمنزلة رجل من المسلمين».
وكانا يتكلّمان فوق قصر الإمارة مشرفين على صناديق أهل السّوق، فقال له عليّ عليه السلام: «إن أبيت يا أبا يزيد ما أقول ، فأنزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه».
فقال : وما هذه الصناديق؟
قال: «فيها أموال التّجار».
قال: أتامرني أن أكسر صناديق قوم، قد توكّلوا على اللّه وجعلوا فيها أموالهم.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : «أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك أموالهم، وقد توكّلوا على اللّه واقفلوا عليها؟ وإن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفي وخرجنا جميعا إلى الحيرة، فإنّ بها تجّارا مياسير فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله».
فقال : أو سارق جئت.
قال: «تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعا».
قال له: أفتأذن لي أن أخرج إلى معاوية؟
فقال له : «قد أذنت لك».
قال: فأعنّي على سفري هذا.
قال : «يا حسن أعط عمّك أربعمئة درهم».
فخرج عقيل ، وهو يقول :
سيغنيني الّذي أغناك عنّيويقضي ديننا ربّ قريب ۱۱
ما رواه في أمالي الشّيخ رحمه الله بإسناده عن عبد الصّمد، عن جعفر بن محمّد عليهماالسلام، قال : قلت : يا أبا عبد اللّه حدّثنا حديث عقيل.
قال: «نعم ، جاء عقيل إليكم بالكوفة وكان عليّ عليه السلام جالسا في صحن المسجد وعليه قميص سنبلانيّ، قال : فسأله ، فقال : أكتب لك إلى ينبع قال : ليس غير هذا؟ قال : لا، فبينما هو كذلك إذ أقبل الحسين عليه السلام ، فقال : اشتر لعمّك ثوبين، فاشترى له، قال : يابن أخي ما هذا؟ قال : هذه كسوة أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ أقبل حتّى انتهى إلى عليّ عليه السلام، فجلس فجعل يضرب يده على الثّوبين وجعل يقول : ما ألين هذا الثّوب يا أبا يزيد! قال: يا حسن أخد عمّك ۱۲ قال : واللّه ما أملك صفراء ولا بيضاء. قال : فمر له ببعض ثيابك. قال : فكساه بعض ثيابه . قال ثُمّ قال : يا محمّد أخد عمّك، قال : واللّه ما أملك درهما ولا دينارا، قال: فاكسه بعض ثيابك .
قال عقيل : يا أمير المؤمنين إئذن لي إلى معاوية.
قال : في حلّ محلّل فانطلق نحوه، وبلغ ذلك معاوية ، فقال : اركبوا أفره دوّابكم وألبسوا من أحسن ثيابكم، فإنّ عقيلاً قد أقبل نحوكم، وأبرز معاوية سريره فلمّا انتهى إليه عقيل ، قال معاوية: مرحبا بك يا أبا يزيد ما نزع بك؟
قال: طلب الدّنيا من مظانّها.
قال: وفّقت وأصبت قد أمرنا لك بمئة ألف، فأعطاه المئة ألف، ثمّ قال : أخبرني عن العسكرين اللّذين مررت بهما عسكري وعسكر عليّ؟
قال: في الجماعة أخبرك أو في الوحدة؟
قال: لا بل في الجماعة.
قال: مررت على عسكر عليّ عليه السلام فإذا ليل كليل النبيّ صلى الله عليه و آله ونهار كنهار النبيّ صلى الله عليه و آله، إلاّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ليس فيهم، ومررت على عسكرك فإذا أوّل من استقبلني أبو الأعور وطائفة من المنافقين والمنفّرين برسول اللّه صلى الله عليه و آله، إلاّ أنّ أبا سفيان ليس فيهم، فكفّ عنه حتّى إذا ذهب النّاس.
قال له : يا أبا يزيد ، أيش صنعت بي؟
قال : ألم أقل لك في الجماعة أو في الوحدة؟ فأبيت عليَّ.
قال : أمّا الآن فاشفني من عدوّي.
قال: ذلك عند الرّحيل، فلمّا كان من الغد شدّ غرائره ورواحله، وأقبل نحو معاوية وقد جمع معاوية حوله، فلمّا انتهى إليه ، قال : يا معاوية من ذا عن يمينك؟
قال: عمرو بن العاص فتضاحك، ثُمّ قال : لقد علمت قريش أنّه لم يكن أحصى لتيوسها من أبيه، ثُمّ قال : من هذا؟
قال: هذا أبو موسى. فتضاحك، ثُمّ قال: لقد علمت قريش بالمدينة أنّه لم يكن بها امرأة أطيب ريحا من قبّ أُمّه . ۱۳
قال : أخبرني عن نفسي يا أبا يزيد.
قال: تعرف حمامة؟ ثُمّ سار فألقي في خلد معاوية، قال : أُمّ من أُمّهاتي لست أعرفها. فدعا بنسّابين من أهل الشّام فقال : أخبراني عن أُمّ من أُمّهاتي. يقال لها: حمامة لست أعرفها.
فقالا: نسألك باللّه لا تسألنا عنها اليوم.
قال: أخبراني أو لأضربنّ أعناقكما، لكما الأمان.
قالا : فإنّ حمامة جدّة أبي سفيان السّابعة، وكانت بغيّا، وكان له بيت توفّي فيه».
وقال جعفر بن محمّد عليهماالسلام : «وكان عقيل من أنسب النّاس» . ۱۴
وما رواه ابن أبي الحديد قال : رووا أنّ عقيلاً رحمه الله قدِم على أمير المؤمنين عليه السلام، فوجده جالسا في صحن مسجد بالكوفة، فقال : السّلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته ، وكان عقيل قد كفّ بصره .
فقال : «وعليك السّلام يا أبا يزيد»، ثمّ التفت إلى ابنه الحسن عليه السلام، فقال :«قم فأنزل عمّك».
فقام فأنزله، ثُمّ عاد ، فقال : «اذهب فاشتر لعمّك قميصا جديدا، ورداءً جديدا وإزارا جديدا ونعلاً جديدا». فذهب فاشترى له .
فغدا عقيل على عليّ عليه السلام في الثّياب ، فقال : السّلام عليك يا أمير المؤمنين .
فقال: «وعليك السّلام يا أبا يزيد» .
قال: يا أمير المؤمنين ما أراك أصبت من الدّنيا شيئا ، وإنّي لا ترضى نفسي من خلافتك بما رضيت به لنفسك .
فقال : «يا أبا يزيد يخرج عطائي فأدفعه إليك» .
فلمّا ارتحل عن أمير المؤمنين عليه السلام أتى معاوية فنصبت له كراسيّه، وأجلس جلساءه حوله، فلمّا ورد عليه أمر له بمئة ألف فقبضها، ثُمّ غدا عليه يوما بعد ذلك وبعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام وبيعة الحسن لمعاوية، وجلساء معاوية حوله، فقال : يا أبا يزيد، أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك، فقد وردت عليهما.
قال: أخبرك، مررت واللّه بعسكر أخي، فإذا ليل كليل رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ونهار كنهار رسول اللّه صلى الله عليه و آله، إلاّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ليس في القوم، ما رأيت إلاّ مصليّا، ولا سمعت إلاّ قارئا، ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممّن نفر برسول اللّه صلى الله عليه و آله ليلة العقبة، ثُمّ قال : من هذا عن يمينك يا معاوية؟
قال : هذا عمرو بن العاص.
قال : هذا الّذي اختصم فيه ستّة نفر فغلب عليه جزّار قريش! فمن الآخر؟
قال : الضّحاك بن قيس الفِهْريّ.
قال : أما واللّه ، لقد كان أبوه جيّد الأخذ لعسب التيوس؟ فمن هذا الآخر؟
قال: أبو موسى الأشعريّ.
قال : ابن السّراقة، فلمّا رأى معاوية أنّه قد أغضب جلساءه علم أنّه إن استخبره عن نفسه قال فيه سوءا، فأحبّ أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السّوء فيذهب بذلك غضب جلسائه، قال : يا أبا يزيد، فما تقول فيّ؟
قال : دعني من هذا.
قال: لتقولنّ.
قال : أتعرف حمامة؟
قال: ومن حمامة يا أبا يزيد؟
قال : قد أخبرتك، ثُمّ قام فمضى فأرسل معاوية إلى النّسابة.
فدعاه فقال: من حمامة؟
قال: ولي الأمان؟
قال : نعم.
قال : حمامة جدّتك أُمّ أبي سفيان كانت بغيّا في الجاهليّة صاحبة راية.
فقال معاوية لجلسائه: قد ساويتكم وزدت عليكم فلا تغضبوا . ۱۵
وما رواه في شرح الأخبار للقاضي النعمان : [ وأمّا عقيل ] : وكالّذي جاء من خبر عقيل بن أبي طالب وذلك أنّه أتى إلى عليّ عليه السلام يسأله أن يعطيه، فقال له عليّ عليه السلام: «تلزم عليّ حتّى يخرج عطائي فأُعطيك».
فقال : وما عندك غير هذا؟
قال: «لا».
فلحق معاوية، فلمّا صار إليه حَفِلَ به وسرّ بقدومه وأجزل العطاء له وأكرم نزله، ثُمّ جمع وجوه النّاس ممّن معه وجلس وذكر لهم قدوم عقيل وقال : ما ظنّكم برجل لم يصلح لأخيه حتّى فارقه وآثرنا عليه ودعا به. فلمّا دخل رحب به وقرّبه ، وأقبل عليه ومازحه ، وقال : يا أبا يزيد من خير لك أنا أو عليّ؟
فقال له عقيل: أنت خير لنا من عليّ، وعليّ خير لنفسه منك لنفسك.
فضحك معاوية ـ وأراد أن يستر ضحكه ما قاله عقيل عمّن حضر ـ وسكت عنه.
فجعل عقيل ينظر إلى من في مجلس معاوية ويضحك، فقال له معاوية: ما يضحكك يا أبا يزيد؟
فقال : ضحكت واللّه ، إنّي كنت عند عليّ والتفت إلى جلسائه، فلم أرَ غير المهاجرين، والأنصار والبدريّين وأهل بيعة الرّضوان، وأخاير أصحاب النّبيّ صلى الله عليه و آله، وتصفحت من في مجلسك هذا فلم أرَ إلاّ الطُّلقاء، أصحابي وبقايا الأحزاب أصحابك، وكان عقيل ممّن أسر يوم بدر وفيمن أطلق بفكاك فكّه به العبّاس مع نفسه.
فقال له معاوية : وأنت من الطُّلقاء يا أبا يزيد؟
فقال: إي واللّه ، ولكنّي أبت إلى الحقّ وخرج منه هؤلاء معك.
قال: فلماذا جئتنا؟
قال : لطلب الدّنيا . فأراد أن يقطع قوله، فالتفت إلى أهل الشّام، فقال : يا أهل الشّام أسمعتم قول اللّه عز و جل « تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ» ۱۶ ؟
قالوا: نعم.
قال: فأبو لهب عمّ هذا الشّيخ المتكلّم ـ يعني عقيل ـ وضحك وضحكوا.
فقال لهم عقيل : فهل سمعتم قول اللّه عز و جل : «وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ » ۱۷ ؟ هي عمّة أميركم معاوية، هي ابنة حرب بن أميّة زوجة عمّي أبي لهب، وهما جميعا في النّار فانظروا أيّهما أفضل الرّاكب أو المركوب ؟.
فلمّا نظر معاوية إلى جوابه قال : إن كنت إنّما جئتنا يا أبا يزيد للدّنيا فقد أنلناك منها ما قسّم لك، ونحن نزيدك، وألحق بأخيك، فحسبنا ما لقينا منك.
فقال عقيل : واللّه ، لقد تركت معه الدّين، وأقبلت إلى دنياك، فما أصبت من دينه، ولا نلت من دنياك عوضا منه، وما كثير أعطائك إيّاي، وقليله عندي إلاّ سواء، وإن كلّ ذلك عندي لقليل في جنب ما تركت من عليّ. وانصرف على عليّ عليه السلام . ۱۸
وقال القاضي نعمان : ومال عقيل بعد ذلك ـ يعني بعد حرب هوازن وردّه الأبرة الّتي أخذها إلى المغنم ـ إلى حبّ المال والكسب لمّا رأى النّاس قد مالوا إلى ذلك وأتى عليّا عليه السلام وهو في الكوفة ، فقال له أعطني من المال ما اتّسع فيه ، كما اتّسع النّاس.
فعرض عليه ما عنده فلم يقبضه، وقال: أعطني ما في يديك من مال المسلمين.
فقال له : «أمّا هذا فما إليه من سبيل، ولكنّي أكتب لك إلى مالي [بينبع] فتأخذ منه».
قال : ما يرضيني من ذلك شيئا، وسأذهب إلى رجل يعطيني.
فأتى معاوية، فسرّ معاوية بقدومه عليه وجمع وجوه أهل الشّام وأحضره، وقال لهم: هذا أبو يزيد عقيل بن أبي طالب قد اختارنا على أخيه عليّ،ورآنا خيرا له منه.
فقال له عقيل: هو كذلك يا معاوية، إنّ فينا اللّين من غير ضعف ... . ۱۹
وقال ابن قتيبة في الإمامة والسّياسة : وذكروا أنّ عقيل بن أبي طالب قدم على أخيه بالكوفة، فقال له عليّ: « مرحبا بك وأهلاً ما أقدمك يا أخي؟»
قال : تأخّر العطاء عنّا وغلاء السّعر ببلدنا وركبني دين عظيم، فجئت لتصلني.
فقال عليّ : «واللّه ما لي ممّا ترى شيئا إلاّ عطائي، فإذا خرج فهو لك ».
فقال عقيل : وإنّما شخوصي من الحجاز إليك من أجل عطائك؟ وماذا يبلغ منّي عطاؤك وما يدفع من حاجتي؟
فقال عليّ: «فمه! هل تعلم لي مالاً غيره؟ أم تريد أن يحرقني اللّه في نار جهنّم في صلتك بأموال المسلمين؟»
فقال عقيل : واللّه ، لأخرجنّ إلى رجل هو أوصل لي منك (يريد معاوية).
فقال له عليّ : «راشدا مهديّا ».
فخرج عقيل حتّى أتى معاوية فلمّا قدم عليه ، قال له معاوية: مرحبا وأهلاً بك يابن أبي طالب ما أقدمك عليَّ؟
فقال: قدمت عليك لدين عظيم ركبني فخرجت إلى أخي ليصلني فزعم أنّه ليس له ممّا يلي إلاّ عطاؤه، فلم يقع ذلك منّي موقعا، ولم يسدّ منّي مسدّا، فأخبرته أنّي سأخرج إلى رجل هو أوصل منه لي فجئتك.
فازداد معاوية فيه رغبة، وقال : يا أهل الشّام هذا سيّد قريش وابن سيّدها عرف الّذي فيه أخوه من الغواية والضّلالة، فأثاب إلى أهل الدّعاء إلى أهل الحقّ، ولكنّي أزعم أنّ جميع ما تحت يدي لي فما أعطيت فقربة إلى اللّه ، وما أمسكت فلا جناح عليّ فيه.
فأغضب كلامه عقيلاً لمّا سمعه ينتقص أخاه، فقال: صدقت خرجت من عند أخي على هذا القول، وقد عرفت من في عسكره، لم أفقد واللّه رجلاً من المهاجرين والأنصار، ولا واللّه ما رأيت في عسكر معاوية رجلاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله.
فقال معاوية عند ذلك : يا أهل الشّام أعظم النّاس من قريش عليكم حقّا ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسيّد قريش، وها هو ذا تبرأ إلى اللّه ممّا عمل به أخوه.
قال : وأمر له معاوية بثلاثمئة ألف دينار، قال له هذه مئة ألف تقضي بها ديونك ، ومئة ألف تصل بها رحمك ، ومئة ألف توسّع بها على نفسك . ۲۰
وقال ابن أبي الحديد : ومن المفارقين لعليّ عليه السلام أخوه عقيل بن أبي طالب قدم على أميرالمؤمنين بالكوفه يسترفِده فعرض عليه عطاءه، فقال:إنّماأريد من بيت المال؟
فقال: «تقيم إلى يوم الجمعة»، فلمّا صلّى عليه السلام الجمعة ، قال له : «ما تقول فيمن خان هؤلاء أجمعين؟»
قال: بئس الرّجل!
قال : «فإنّك أمرتني أن أخونهم وأعطيك».
فلمّا خرج من عنده شخص إلى معاوية، فأمر له يوم قدومه بمئة ألف درهم. وقال له : يا أبا يزيد ، أنا خير لك أم عليّ؟
قال : وجدت عليّا أنظر لنفسه منه لي، ووجدتك أنظر لي منك لنفسك . ۲۱
وقال أيضا : واختلف النّاس في عقيل هل التحَق بمعاوية وأمير المؤمنين حيّ؟
فقال قوم : نعم.
ورَوَوْا أنّ معاوية قال يوما وعقيل عنده : هذا أبو يزيد لولا علمه أنّي خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه.
فقال عقيل : خير لي في ديني ، وأنت خير لي في دنياي، وقد آثرت دنياي أسأل اللّه خاتمة خير .
وقال قوم : إنّه لم يُعَد إلى معاوية إلاّ بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام، واستدلّوا على ذلك بالكتاب الّذي كتبه إليه في آخر خلافته والجواب أجابه عليه السلام ... وهذا القول هو الأظهر عندي . ۲۲
وقال المقريزيّ في النزاع والتخاصم : هذا وهم يزعمون أنّ عقيلاً أعان معاوية على عليّ عليه السلام، فإن كانوا كاذبين فما أولاهم بالكذب، وإن كانوا صادقين فما جازوه خيرا، اذ ضربوا عنق مسلم بن عقيل صبرا، وغدرا بعد الأمان . ۲۳
وقال ابن أبي الحديد (في المفارقين لعليّ عليه السلام) :
فأمّا عقيل فالصّحيح الّذي اجتمع ثقاتُ الرّواة عليه أنّه لم يجتمع مع معاوية إلاّ بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام، ولكنّه لازم المدينة ولم يحضر حرب الجمل وصفّين، وكان ذلك بإذن أمير المؤمنين عليه السلام، وقد كتب عقيل إليه بعد الحكَمَين يستأذنه في القدوم عليه الكوفة بولده وبقية أهله، فأمره عليه السلامبالمقام.
وقد روي في خبر مشهور أنّ معاوية وبّخ سعيد بن العاص على تأخيره عنه في صفّين، فقال سعيد: لو دعوتَني لوجدتني قريبا، ولكنّي جلست مجلس عقيل وغيره من بني هاشم، ولو أوعبنا لأوعبُوا . ۲۴
وفي الغارات للثقفيّ : عن أبي عمرو بن العلاء : أنّ عقيل بن أبي طالب لمّا قدم على عليّ عليه السلام بالكوفة يسترفده عرض عليه عطاءه، فقال : إنّما أريد أن تعطيني من بيت المال.
فقال: «تقيم إلى يوم الجمعة»؛ فأقام فلمّا صلّى أمير المؤمنين عليه السلام الجمعة قال لعقيل : «ما تقول فيمن خان هؤلاء أجمعين؟»
قال: بئس الرّجل ذاك!
قال : «فأنت تأمرني أن أخون هؤلاء وأعطيك.»
فلمّا خرج من عنده أتى معاوية فأمر له [ يوم قدومه ]بمئة ألف درهم، وقال له: يا أبا يزيد، أنا خير لك أم عليّ؟
قال عقيل : وجدت عليّا أنظر لنفسه منه لي، ووجدتك أنظر لي منك لنفسك .
قال : وذكر أبو عمرو أنّ معاوية ، قال لعقيل: إنّ فيكم يا بني هاشم لخصلة لا تعجبني.
قال : وما تلك خصلة؟
قال : اللين.
قال : وما ذلك اللين؟
قال: هو ما أقول لك.
قال: أجل يا معاوية، ءانّ فينا للينا في غير ضعف، وعِزّا في غير عنف، فإنّ لينكم يابن صخر غدرٌ، وسلمكم كفر.
فقال معاوية: ما أردنا كلّ هذا يا أبا يزيد.
فقال عقيل :
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصاوما علّم الإنسان إلاّ ليعلما
إنّ السّفاهة طيش من خلائقكملا قدّس اللّه أخلاق الملاعينا
فأراد معاوية أن يقطع كلامه فقال : ما معنى هذه الكلمة «طه»؟
فقال عقيل: نحن أهله وعلينا نزل لا على أبيك ولا على أهل بيتك؛ «طه» بالعبرانيّة: يا رجل . ۲۵
في تاريخ الإسلام: قال غسّان بن مُضَر: حدّثنا أبو هلال، حدّثنا حُمَيد بن هلال، أنَّ عقيلاً سأل عليّا ، فقال: إنّي محتاج وفقير.
فقال: «اصبر حتّى يخرج عطائي». فألحّ عليه.
فقال لرجل: خذ بيده، فانطلق به إلى الحوانيت، فقل: دُقّ الأقفال وخذ ما في الحوانيت.
فقال: تريد أن تتّخذني سارقا. قال: وأنت تريد أن تتخذني سارقا وأعطيك أموال النّاس.
قال: لآتينّ معاوية.
قال: أنت وذاك.
فأتى معاوية، فأعطاه مئة ألف، ثمّ قال: اصعد على المنبر، فاذكر ما أولاك عليّ وما أوليتك، قال: فصعد المنبر فحمد اللّه ، ثُمّ قال: أيّها النّاس إنّي أخبركم أنّي أردت عليّا على دينه، فاختار دينه عليّ، وأردت معاوية على دينه فاختارني على دينه.
فقال معاوية: هذا الّذي تزعم قريش أنّه أحمق! . ۲۶
وفي ينابيع المودّة عن ابن عساكر قال : أخرج ابن عساكر: أنّ عقيلاً سأل عليّا ، فقال : إنّي محتاج ( وإنّي فقيرٍ ف)أعطني.
فقال : «اصبر حتّى يخرج عطاؤك مع المسلمين فأعطيك معهم».
فالّح عليه فأخذ بيد عقيل فانطلق به إلى حوانيت أهل السّوق فقال له : «دقّ هذه الأقفال وخذ ما في هذه الحوانيت».
قال له : تريد أن تتّخذني سارقا؟
فقال عليّ له : «وأنت تريد أن تتّخذني سارقا أن آخذ أموال المسلمين وأعطيكها دونهم؟».
[ قال : لآتينّ معاوية . قال : «أنت وذاك »]. ثمّ أتى عقيل معاوية [ فسأله ] فأعطاه مئة ألف درهم، ثمّ قال معاوية له : اصعد [ على ]المنبر فاذكر ما أعطاك عليّ وما أعطيتك.
فصعد وحمد اللّه وأثنى عليه ، ثُمّ قال : يا أيّها النّاس إنّي أخبركم أنّي أردت عليّا على دينه فاختار دينه عليَّ، وإنّى أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه . ۲۷
وفي أسد الغابة: عبد اللّه بن عياش المرهبيّ ، وإسحاق بن سعد ، عن أبيه : أنّ عقيل بن أبي طالب لزمه دَيْنٌ، فقدم على عليّ بن أبي طالب الكوفة، فأنزله وأمر ابنه الحسن فكساه ، فلمّا أمسى دعا بعَشائه فإذا خُبز وملح وبقْل، فقال عقيل: ما هو إلاّ ما أرى؟
قال : «لا».
قال: فتقضي ديني؟
قال: «وكم دينك»؟
قال : أربعون ألفا.
قال : «ما هي عندي ولكن اصبر حتّى يخرج عطائي،فإنّه أربعة الآف فأدفعه إليك».
فقال له عقيل: بيوت المال بيدك وأنت تسوّفني بعطائك!
فقال : «أتامرني أن أدفع إليك أموال المسلمين وقد ائتمنوني عليها؟!
قال : فإنّي آت معاوية. فأذن له، فأتى معاوية ، فقال له: يا أبا يزيد كيف تركت عليّا وأصحابه؟
قال: كأنّهم أصحاب محمّد إلاّ أنّي لم أرَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيهم، وكأنّك وأصحابك أبو سفيان وأصحابه إلاّ أنّي لم أرَ أبا سفيان فيكم، فلمّا كان الغد قعد معاوية على سريره وأمر بكرسي إلى جنب السّرير ، ثُمّ أذن للنّاس، فدخلوا وأجلس الضّحّاك بن قيس معه على سريره، ثُمّ أذن لعقيل فدخل عليه، فقال يا معاوية من هذا معك؟
قال : الضّحّاك بن قيس.
فقال: الحمد للّه الّذي رفع الخسيسة وتمّم النّقيصة! هذا الّذي كان أبوه يخصي بَهْمَنا بالأبطح، لقد كان بخصائها رفيقا.
فقال الضّحّاك: إنّي لعالم بمحاسن قريش، وإنّ عقيلاً عالم بمساوئها .
وأمر له معاوية بخمسين ألف درهم، فأخذها ورجع . ۲۸
1. شرح الأخبار : ج ۳ ص ۲۴۰ .
2. الاستيعاب : ج ۳ ص ۱۸۸ الرقم۱۸۵۳، البيان والتبيين : ج ۲ ص ۳۲۶، ذخائر العقبى : ص ۳۶۹ .
3. شرح نهج البلاغة : ج ۴ ص ۹۲، أسد الغابة : ج ۴ ص ۶۲ الرقم ۳۷۳۲، بحار الأنوار : ج ۴۲ ص ۱۱۴ .
4. الإمامة والسياسة : ج ۱ ص ۱۰۱ .
5. راجع أسد الغابة : ج ۴ ص ۶۲ ؛ الغارات : ج ۲ ص ۹۳۶، بحار الأنوار : ج ۴۲ ص ۱۱۳ ـ ۱۱۱ .
6. عمدة الطالب : ص ۳۱ .
7. راجع شرح الأخبار : ج ۲ ص ۱۰۰، الدرجات الرفيعة : ص ۱۵۵ ـ ۱۵۴ .
8. راجع ينابيع المودة : ج ۲ ص ۴۱۹ الرقم۱۶۰، تاريخ الإسلام للذهبى¨ : ج ۴ ص ۸۵ .
9. راجع المصادر المتقدمة .
10. هذه الرواية تفيد أنّ القصّة كانت فوق قصر الإمارة، وتأتي رواية أمالي الشيخ فيها أنّه كانت في صحن المسجد .
11. المناقب لابن شهر آشوب : ج ۲ ص ۱۰۸، بحار الأنوار : ج ۴۱ ص ۱۱۴ ـ ۱۱۳ ح۲۳ .
12. أي : أعط عمّك ، ولم أجده بهذا المعنى في الكتب الموجودة عندي .
13. ما بين الأليتين أو الوركين .
14. الأمالي للطوسي : ص ۷۲۳ ـ ۷۲۵ ح۱۵۲۴، الغارات : ج ۲ ص ۹۳۶، بحار الأنوار : ج ۴۲ ص ۱۱۱ ـ ۱۱۲ ح۳ ، مواقف الشيعة : ج ۱ ص ۲۳۹ ـ ۲۴۰.
15. شرح نهج البلاغة : ج ۲ ص ۱۲۴ ـ ۱۲۵ ؛ الغارات : ج ۱ ص ۶۴ ـ ۶۵، الدرجات الرفيعة : ص ۱۶۱ ـ ۱۶۰، بحار الأنوار : ج ۴۲ ص ۱۱۲ ـ ۱۱۴ ، مواقف الشيعة : ج ۱ ص ۲۳۶ ـ ۲۳۷.
16. المسد:۲.
17. المسد:۴.
18. شرح الأخبار : ج ۲ ص ۱۰۰ ـ ۱۰۲ .
19. شرح الأخبار : ج ۳ ص ۲۴۱ .
20. الإمامة والسياسة : ج ۱ ص ۱۰۱ ـ ۱۰۲ وراجع مروج الذهب : ج ۳ ص ۴۶ .
21. شرح نهج البلاغة : ج ۴ ص ۹۲ ؛ بحار الأنوار : ج ۴۲ ص ۱۱۴ .
22. شرح نهج البلاغة : ج ۱۱ ص ۲۵۱ ؛ بحار الأنوار : ج ۴۲ ص ۱۱۶، الدرجات الرفيعة :۱۵۵ وراجع: تاريخ الإسلام للذهبي: ج ۴ ص ۸۵.
23. النزاع والتخاصم : ص ۳۱، شرح نهج البلاغة : ج ۱۵ ص ۲۳۶ .
24. شرح نهج البلاغة : ج ۱۰ ص ۲۵۰، تاريخ الإسلام للذهبي : ج ۴ ص ۸۴ .وفيه «عمّر بعد أخيه الإمام عليّ ثمّ وفد على معاوية» .
25. الغارات : ج ۲ ص ۵۴۹ ـ ۵۵۲، شرح نهج البلاغة : ج ۴ ص ۹۲، بحار الأنوار : ج ۴۲ ص ۱۱۴، الدرجات الرفيعة : ص ۱۵۸ .
26. تاريخ الإسلام للذهبى¨ : ج ۴ ص ۸۵ .
27. ينابيع المودة : ج ۲ ص ۴۱۹ ـ ۴۲۰ ح۱۶۰ .
28. أسد الغابة : ج ۴ ص ۶۲ الرقم ۳۷۳۲ .