ابنُ عَبّاسٍ لِمُعاوِيَةَ : أ لا تَكُفَّ عَن شَتمِ هذَا الرَّجُلِ ؟ قالَ : ما كُنتُ لِأَفعَلَ حَتّى يَربوَ عَلَيهِ الصَّغيرُ ويَهرَمَ فيهِ الكَبيرُ ، فَلَمّا وُلِّيَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ كَفَّ عَن شَتمِهِ ، فَقالَ النّاسُ : تَرَكَ السُّنَّةَ .
قالَ : وقَد رُوِيَ عَنِ ابن مَسعودٍ ـ إمّا مَوقوفاً عَلَيهِ أو مَرفوعا ـ : كَيفَ أنتُم إذا شَمَلتَكُم فِتنَةٌ يَربو عَلَيهَا الصَّغيرُ ، ويَهرَمُ فيهَا الكَبيرُ ، يَجري عَلَيهَا النّاسُ فَيَتَّخِذونَها سُنَّةً ، فَإِذا غُيِّرَ مِنها شَيءٌ قيلَ : غُيِّرَتِ السُّنَّةُ ؟
قالَ أبو جَعفَرٍ : وقَد تَعلَمونَ أنَّ بَعضَ المُلوكِ رُبَّما أحدَثوا قَولاً أو ديناً لِهَوىً ، فَيَحمِلونَ النّاسَ عَلى ذلِكَ حَتّى لا يَعرِفوا غَيرَهُ ، كَنَحوِ ما أخَذَ النّاسَ الحَجّاجُ بنُ يوسُفَ بِقراءَةِ عُثمانَ ، وتَرَكَ قِراءَةَ ابنِ مَسعودٍ واُبَيِّ بنِ كَعبٍ ، وتَوَعَّدَ عَلى ذلِكَ بِدونِ ما صَنَعَ هُوَ وجَبابِرَةُ بَني اُمَيَّةً وطُغاةُ مَروانَ بِوُلدِ عَلِيٍّ عليه السلام وشيعَتِهِ ، وإنَّما كانَ سُلطانُهُ نَحوَ عِشرينَ سَنَةً ، فَما ماتَ الحَجّاجُ حَتَّى اجتَمَعَ أهلُ العِراقِ عَلى قِراءَةِ عُثمانَ ، ونَشَأَ أبناؤُهُم ولا يَعرِفون غَيرَها ؛ لاِءِمساكِ الآباءِ عَنها ، وكَفِّ المُعَلِّمينَ عَن تَعليمِها ، حَتّى لَو قُرِئَت عَلَيهِم قِراءَةُ عَبدِ اللّهِ واُبَيٍّ ما عَرَفوها ، ولَظَنّوا بِتَأليفِها الاِستِكراهَ وَالاِستِهجانَ ؛ لِاءِلفِ العادَةِ وطولِ الجَهالَةِ ؛ لِأَ نَّهُ إذَا استَولَت عَلَى الرَعِيَّةِ الغَلَبَةُ ، وطالَت عَلَيهِم أيّامُ التَّسَلُّطِ ، وشاعَت فيهِمُ المَخافَةُ ، وشَمِلَتُهُم التَّقِيَّةُ ، اتَّفَقوا عَلَى التَّخاذُلِ وَالتَّساكُتِ ، فَلا تَزالُ الأَيَّامُ تَأخُذُ مِن بَصائِرِهِم ، وتَنقُصُ مِن ضَمائِرِهِم ، وتَنقُضُ مِن مَرائِرِهِم ۱ ، حَتّى تَصيرَ البِدعَةُ الَّتي أحدَثوها غامِرَةً لِلسُّنَّةِ الَّتي كانوا يَعرِفونَها .
ولَقَد كانَ الحَجّاجُ ومَن وَلّاهُ كَعَبدِ المَلِكِ وَالوَليدِ ومَن كانَ قَبلَهُما وبَعدَهُما مِن فَراعِنَةِ بَني اُمَيَّةَ عَلى إخفاءِ مَحاسِنِ عَلِيٍّ عليه السلام وفَضائِلِهِ وفَضائِلِ وُلدِهِ وشيعَتِهِ