راجع : ج ۱۳ ص ۷۸ (الأحنف بن قيس) .
۷ / ۳
اُمُّ الخَيرِ
۳۸۹۰.بلاغات النساء عن الشعبي :كَتَبَ مُعاوِيَةُ إلى واليهِ بِالكوفَةِ : أن أوفدِ عَلَيَّ اُمَّ الخَيرِ بِنتَ الحَريشِ بنِ سُراقَةَ البارِقِيَّةَ رِحلَةً مَحمودَةَ الصُّحبَةِ غَيرَ مَذمومَةِ العاقِبَةِ ... فَلَمّا قَدِمَت عَلى مُعاوِيَةَ أنزَلَها مَعَ الحَرَمِ ثَلاثا ثُمَّ أذِنَ لَها فِي اليَومِ الرّابِعِ وجَمَعَ لَهَا النّاسَ ، فَدَخَلَت عَلَيهِ فَقالَت : اَلسَّلامُ عَلَيكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ! فَقالَ : وعَلَيكِ السَّلامُ وبِالرَّغمِ ـ وَاللّهِ ـ مِنكِ دَعَوتِني بِهذَا الِاسمِ ، فَقالَت : مَه يا هذا! فَإِنَّ بَديهَةَ السُّلطانِ مَدحَضَةٌ لِما يُحِبُّ عِلمَهُ . قالَ ۱ : صَدَقتِ يا خالَةُ ، وكَيفَ رَأَيتِ مَسيرَكِ ؟ قالَت : لَم أزَل في عافِيَةٍ وسَلامَةٍ حَتّى اُوفِدتُ إلى مُلكٍ جَزلٍ وعَطاءٍ بَذلٍ ، فَأَنا في عَيشٍ أنيقٍ عِندَ مَلِكٍ رَفيقٍ ، فَقالَ مُعاوِيَةُ : بِحُسنِ نِيَّتي ظَفِرتُ بِكُم واُعِنتُ عَلَيكُم !
قالَت : مَه يا هذا ! لَكَ وَاللّهِ مِن دَحضِ المَقالِ ما تُردي عاقِبَتُهُ .
قالَ : لَيسَ لِهذا أرَدناكِ .
قالَت : إنَّما أجري في مَيدانِكَ إذا أجرَيتَ شَيئا أجرَيتُهُ ، فَاسأَل عَمّا بَدا لَكَ .
قالَ : كَيفَ كانَ كَلامُكِ يَومَ قَتلِ عَمّارِ بنِ ياسِرٍ ؟
قالَت : لَم أكُن وَاللّهِ رَوَّيتُهُ قَبلُ ، ولا زَوَّرتُهُ ۲ بَعدُ ، وإنَّما كانَت كَلِماتٍ نَفَثَهُنَّ لِساني حينَ الصَّدمَةِ ، فَإِن شِئتَ أن اُحَدِّثَ لَكَ مَقالاً غَيرَ ذلِكَ فَعَلتُ .
قالَ : لا أشاءُ ذلِكَ .
ثُمَّ التَفَتَ إلى أصحابِهِ فَقالَ : أيُّكُم حَفِظَ كَلامَ اُمِّ الخَيرِ ؟
قالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ : أنَا أحفَظُهُ يا أميرَ المُؤمِنينَ كَحِفظي سورَةَ الحَمدِ ، قالَ : هاتِهِ .
قالَ : نَعَم ، كَأَنّي بِها يا أميرَ المُؤمِنينَ وعَلَيها بُردٌ زَبيدِيٌّ كَثيفُ الحاشِيَةِ ، وهِيَ عَلى جَمَلٍ أرمَكَ ۳ وقَد اُحيطَ حَولَها حِواءٌ وبِيَدِها سَوطٌ مُنتَشِرٌ الضَّفرِ ، وهِيَ كَالفَحلِ يَهدِرُ في شِقشِقَتِهِ ، تَقولُ : «يَـأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْ ءٌ عَظِيمٌ» ۴ ، إنَّ اللّهَ قَد أوضَحَ الحَقَّ ، وأبانَ الدَّليلَ ، ونَوَّرَ السَّبيلَ ، ورَفَعَ العَلَمَ ، فَلَم يَدَعكُم في عَمياءَ مُبهَمَةٍ ، ولا سَوداءَ مُدلَهِمَّةٍ ، فَإِلى أينَ تُريدونَ رَحِمَكُم اللّهُ ؟ أفِرارا عَن أميرِ المُؤمِنينَ ، أم فِرارا مِنَ الزَّحفِ ، أم رَغبَةً عَنِ الإِسلامِ ، أمِ ارتِدادا عَنِ الحَقِّ ؟ أ ما سَمِعتُمُ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ يَقولُ : «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّـبِرِينَ وَ نَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ» ۵ .
ثُمَّ رَفَعَت رَأسَها إلَى السَّماءِ وهِيَ تَقولُ : «اللّهُمَّ قَد عيلَ الصَّبرُ ، وضَعُفَ اليَقينُ ، وَانتَشَرَ الرُّعبُ ، وبِيَدِكَ يا رَبِّ أزِمَّةُ القُلوبِ ، فَاجمَع إلَيهِ الكَلِمَةَ عَلَى التَّقوى ، وألِّفِ القُلوبَ عَلَى الهُدى ، وَاردُدِ الحَقَّ إلى أهلِهِ» هَلُمّوا ـ رَحِمَكُمُ اللّهُ! ـ إلَى الإِمامِ العادِلِ ، وَالوَصِيِّ الوَفِيِّ ، وَالصِّدّيقِ الأَكبَرِ ، إنَّها إحَنٌ ۶ بَدرِيَّةٌ ، وأحقادٌ جاهِلِيَّةٌ ، وضَغائِنُ اُحُدِيَّةٌ ، وَثَبَ بِها مُعاوِيَةُ حينَ الغَفلَةِ ، لِيُدرِكَ بِها ثاراتِ بَني عَبدِ شَمسٍ .
ثُمَّ قالَت : «قَـتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لآَ أَيْمَـنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ» ۷ ، صَبرا ، مَعشَرَ الأَنصارِ وَالمُهاجِرينَ ، قاتِلوا عَلى بَصيرَةٍ مِن رَبِّكُم ، وثَباتٍ مِن دينِكُم ، وكَأَنّي بِكُم غَدا لَقَد لَقيتُم أهلَ الشّامِ كحُمُرٍ مُستَنفِرَةٍ ، لا تَدري أينَ يُسلَكُ بِها مِن فِجاجِ الأَرضِ ، باعُوا الآخِرَةَ بِالدُّنيا ، وَاشتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى ، وباعُوا البَصيرَةَ بِالعَمى ، عَمّا قَليلٍ لَيُصبِحُنَّ نادِمينَ ، حَتّى تَحُلَّ بِهِمُ النَّدامَةُ ، فَيَطلُبونَ الإِقالَةَ . إنَّهُ وَاللّهِ مَن ضَلَّ عَنِ الحَقِّ وَقَعَ فِي الباطِلِ ، ومَن لَم يَسكُنِ الجَنَّةَ نَزَلَ النّارَ .
أيُّهَا النّاسُ ! إنَّ الأَكياسَ استَقصَروا عُمُرَ الدُّنيا فَرَفَضوها ، وَاستَبطَأوا مُدَّةَ الآخِرَةِ فَسَعَوا لَها . وَاللّهِ أيُّهَا النّاسُ ! لَولا أن تَبطُلَ الحُقوقُ ، وتُعَطَّلَ الحُدودُ ، ويَظهَرَ الظّالِمونَ وتَقوى كَلِمَةُ الشَّيطانِ لَمَا اختَرنا وُرودَ المَنايا عَلى خَفضِ العَيشِ وطيبِهِ ، فَإِلى أينَ تُريدونَ رَحِمَكُمُ اللّهُ عَنِ ابنِ عَمِّ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وزَوجِ ابنَتِهِ ، وأبِي ابنَيهِ ؟ خُلِقَ مِن طينَتِهِ ، وتَفَرَّعَ مِن نَبعَتِهِ ، وخَصَّهُ بِسِرِّهِ ، وجَعَلَهُ بابَ مَدينَتِهِ وعَلَمَ المُسلِمينَ ، وأبانَ بِبُغضِهِ المُنافِقينَ ، فَلَم يَزَل كَذلِكَ يُؤَيِّدُهُ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِمَعونَتِهِ ، ويَمضي عَلى سَنَنِ استِقامَتِهِ ، لا يَعرُجُ لِراحَةِ الدَّأبِ .
هاهُوَ مُفَلِّقُ الهامِ ومُكَسِّرُ الأَصنامِ ، إذ صَلّى وَالنّاسُ مُشرِكونَ ، وأطاعَ وَالنّاسُ مُرتابونَ ، فَلَم يَزَل كَذلِكَ حَتّى قَتَلَ مُبارِزي بَدرٍ ، وأفنى أهلَ اُحُدٍ ، وفَرَّقَ جَمعَ هَوازِنَ ، فَيالَها مِن وَقائِعَ زَرَعَت في قُلوبِ قَومٍ نِفاقا ورِدَّةً وشِقاقا ! قَدِ اجتَهَدتُ فِي القَولِ ، وبالَغتُ فِي النَّصيحَةِ ، وبِاللّهِ التَّوفيقُ وعَلَيكُمُ السَّلامُ ورَحمَةُ اللّهِ وبَرَكاتُهُ .
فَقالَ مُعاوِيَةُ : وَاللّهِ يا اُمَّ الخَيرِ ، ما أرَدتِ بِهذَا الكَلامِ إلّا قَتلي ، وَاللّهِ لَو قَتَلتُكِ ما حَرِجتُ في ذلِكَ .
قالَت : وَاللّهِ ما يَسوؤُني يَابنَ هِندٍ! أن يُجرِيَ اللّهُ ذلِكَ عَلى يَدَي مَن يُسعِدُنِيَ اللّهُ بِشَقائِهِ . ۸
1.في المصدر : «قالت» ، والصحيح ما أثبتناه .
2.التَّزوير : إصلاح الكلام وتهيئته (لسان العرب : ج ۴ ص ۳۳۷ «زور») . تريد أنّها قالته ارتجالاً .
3.مِن الرُّمكة : لون الرماد ، وقيل : حُمرةٌ يخلطها سواد (لسان العرب : ج ۱۰ ص ۴۳۴ «رمك») .
4.الحجّ : ۱ .
5.محمّد : ۳۱ .
6.جمع إحْنة ؛ الحقد في الصدر (لسان العرب : ج ۱۳ ص ۸ «أحن») .
7.التوبة : ۱۲ .
8.بلاغات النساء : ص ۵۵ ، العقد الفريد : ج ۱ ص ۳۴۳ ، صبح الأعشى : ج ۱ ص ۲۴۸ .