۷ / ۱۰
رِسالَةُ الإِمامِ المَفتوحَةُ إلى اُمَّةِ الإِسلامِ بَعدَ احتِلالِ مِصرَ
۲۸۳۵.الغارات عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه :دَخَلَ عَمرُو بنُ الحَمِقِ وحُجرُ بنُ عَدِيٍّ وحَبَّةُ العُرَنِيُّ وَالحارِثُ الأَعوَرُ وعَبدُ اللّهِ بنِ سَبَأٍ عَلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام بَعدَمَا افتُتِحَت مِصرُ وهُوَ مَغمومٌ حَزينٌ فَقالوا لَهُ : بَيِّن لَنا ما قَولُكَ في أبي بَكرٍ وعُمَرَ ؟
فَقالَ لَهُم عَلِيٌّ عليه السلام : وهَل فَرَغتُم لِهذا ؟ ! وهذِهِ مِصرُ قَدِ افتُتِحَت وشيعَتي بِها قَد قُتِلَت ، أنَا مُخرِجٌ إلَيكُم كِتاباً اُخبِرُكُم فيهِ عَمّا سَأَلتُم وأسأَلُكُم أن تَحفَظوا مِن حَقّي ما ضَيَّعتُم ، فَاقرَؤوهُ عَلى شيعَتي وكونوا عَلَى الحَقِّ أعواناً .
وهذِهِ نُسخَةُ الكِتابِ :
مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى مَن قَرَأَ كِتابي هذا مِنَ المُؤمِنينَ وَالمُسلِمينَ ، السَّلامُ عَلَيكُم ، فَإِنّي أحمَدُ إلَيكُم اللّهَ الَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ .
أمّا بَعدُ ، فَإِنَّ اللّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله نَذيراً لِلعالَمينَ ، وأميناً عَلَى التَّنزيلِ ، وشَهيداً عَلى هذِهِ الاُمَّةِ ، وأنتُم مَعاشِرُ العَرَبِ يَومَئِذٍ عَلى شَرِّ دينٍ وفي شَرِّ دارٍ ، مُنيخونَ عَلى حِجارَةٍ خَشِنٍ ، وحَيّاتٍ صُمٍّ ۱ ، وشَوكٍ مَبثوثٍ فِي البِلادِ ، تَشرَبونَ الماءَ الخَبيثَ ، وتَأكُلونَ الطَّعامَ الجَشيبَ ۲ ، وتَسفِكونَ دِماءَكُم ، وتَقتُلونَ أولادَكُم ، وتَقطَعونَ أرحامَكُم ، وتَأكُلونَ أموالَكُم بَينَكُم بِالباطِلِ ، سُبُلُكُم خائِفَةٌ ، وَالأَصنامُ فيكُم مَنصوبَةٌ ، وَالآثامُ بِكُم مَعصوبَةٌ ، ولا يُؤمِنُ أكثَرُهُم بِاللّهِ إلّا وهُم مُشرِكونَ ، فَمَنَّ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلَيكُم بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله فَبَعَثَهُ إلَيكُم رَسولاً مِن أنفُسِكُم ، وقالَ فيما أنزَلَ مِن كِتابِهِ : «هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـلٍ مُّبِينٍ» ۳ وقالَ : «لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ» ۴ وقالَ : «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ» ۵ وقال : «ذَ لِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ۶ .
فَكانَ الرَّسولُ إلَيكُم مِن أنفُسِكُم بِلِسانِكُم ، وكُنتُم أوَّلَ المُؤمِنينَ تَعرِفونَ وَجهَهُ وشيعَتَهُ وعِمارَتَهَ ، فَعَلَّمَكُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَالفَرائِضَ وَالسُّنَّةَ ، وأمَرَكُم بِصِلَةِ أرحامِكُم وحَقنِ دِمائِكُم وصَلاحِ ذاتِ البَينِ ، وأن تُؤَدُّوا الأَماناتِ إلى أهلِها وأن تُوَفّوا بِالعَهدِ ولاتَنقُضُوا الأَيمانَ بَعدَ تَوكيدِها ، وأمَرَكُم أن تَعاطَفوا وتَبارّوا وتَباذَلوا وتَراحَموا ، ونَهاكُم عَنِ التَّناهُبِ وَالتَّظالُمِ وَالتَّحاسُدِ وَالتَّقاذُفِ وَالتَّباغي ، وعَن شُربِ الخَمرِ وبَخسِ المِكيالِ ونَقصِ الميزانِ ، وتَقَدَّمَ إلَيكُم فيما اُنزِلَ عَلَيكُم : ألّا تَزِنوا ولا تَربوا ولا تَأكُلوا أموالَ اليَتامى ظُلما ، وأن تُؤَدُّوا الأَماناتِ إلى أهلِها ولاتَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ ، ولاتَعتَدوا إنَّ اللّهَ لايُحِبُّ المُعتَدينَ . وكُلُّ خَيرٍ يُدني إلَى الجَنَّةِ ويُباعِدُ مِنَ النّارِ أمَرَكُم بِهِ ، وكُلُ شَرٍّ يُباعِدُ مِنَ الجَنَّةِ ويُدني مِنَ النّارِ نَهاكُم عَنهُ .
فَلَمّا استَكمَلَ مُدَّتَهُ مِنَ الدُّنيا تَوَفّاهُ اللّهُ إلَيهِ سَعيداً حَميداً ، فَيا لَها مُصيبَةً خَصَّتِ الأَقرَبينَ وعَمَّت جَميعَ المُسلِمينَ ، ما اُصيبوا بِمِثلِها قَبلَها ولَن يُعايَنوا بَعدُ اُختَها .
فَلَمّا مَضى لِسَبيلِهِ صلى الله عليه و آله تَنازَعَ المُسلِمونَ الأَمرَ بَعدَهُ ، فَوَاللّهِ ما كانَ يُلقى في روعي ولا يَخطُرُ عَلى بالي أنَّ العَرَبَ تَعدِلُ هذَا الأَمرَ بَعدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله عَن أهلِ بَيتِهِ ، ولا أنَّهُم مُنَحّوهُ عَنّي مِن بَعدِهِ .
فَما راعَني إلَا انثِيالُ النّاسِ عَلى أبي بَكرٍ وإجفالُهُم إلَيهِ لِيُبايِعوهُ ، فَأَمسَكتُ يَدي ورَأَيتُ أنّي أحَقُّ بِمَقامِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فِي النّاسِ مِمَّن تَولَّى الأَمرَ مِن بَعدِهِ . فَلَبِثتُ بِذلِكَ ماشاءَ اللّهُ حَتّى رَأَيتُ راجِعَةً مِنَ النّاسِ رَجَعَت عَنِ الإِسلامِ يَدعونَ إلى مَحقِ دينِ اللّهِ ومِلَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وإبراهيمَ عليه السلام فَخَشيتُ إن لَم أنصُرِ الإِسلامَ وأهلَهُ أن أرى فيهِ ثَلماً وهَدماً يَكونُ مُصيبَتُهُ أعظَمَ عَلَيَّ مِن فَواتِ وِلايَةِ اُمورِكُمُ ، الَّتي إنَّما هِيَ مَتاعُ أيّامٍ قَلائِلَ ثُمَّ يَزولُ ما كانَ مِنها كَما يَزولُ السَّرابُ وكَما يَنقَشِعُ السَّحابُ ، فَمَشَيتُ عِندَ ذلِكَ إلى أبي بَكرٍ فَبايَعتُهُ ، ونَهَضتُ في تِلكَ الأَحداثِ حَتّى زاغَ الباطِلُ وزَهَقَ ، وكانَت كَلِمَةُ اللّهِ هِيَ العُليا ولَو كَرِهَ الكافِرونَ .
فَتَولّى أبو بَكرٍ تِلكَ الاُمورَ فَيَسَّرَ وشَدَّدَ وقارَبَ وَاقتَصَدَ ، فَصَحِبتُهُ مُناصِحاً وأطَعتُهُ فيما أطاعَ اللّهَ فيهِ جاهِداً ، وما طَمِعتُ أن لَوحَدَثَ بِهِ حَدَثٌ وأنَا حَيٌّ أن يَرِدَ إلَيَّ الأَمرُ الَّذي نازَعَتهُ فيهِ طَمَعُ مُستَيقِنٍ ولايَئِسَت مِنهُ يَأسُ مَن لايَرجوهُ ، ولَولا خاصَّةُ ما كانَ بَينَهُ وبَينَ عُمَرَ لَظَنَنتُ أنَّهُ لايَدفَعُها عَنّي .
فَلَمَّا احتَضَرَ بَعَثَ إلى عُمَرَ فَوَلّاهُ فَسَمِعنا وأطَعنا وناصَحنا ، وتَوَلّى عُمَرُ الأَمرَ فَكانَ مَرضِيَّ السّيرَةِ مَيمونَ النَّقيبَةِ ، حَتّى إذَا احتَضَرَ قُلتُ في نَفسي : لَن يَعدِلَها عَنّي فَجَعَلَني سادِسَ سِتَّةٍ ، فَما كانوا لِوِلايَةِ أحَدٍ أشَدَّ كَراهِيَةٍ مِنهُم لِوِلايَتي عَلَيهِم ، فَكانوا يَسمَعونّي عِندَ وَفاةِ الرَّسولِ صلى الله عليه و آله اُحاجُّ أبا بَكرٍ وأقولُ : يا مَعشَرَ قُرَيشٍ إنّا أهلَ البَيتِ أحَقُّ بِهذَا الأَمرِ مِنكُم ، ما كانَ فينا مَن يَقرَأُ القُرآنَ ويعَرَفُ السُّنَّةَ ويَدينُ دينَ الحَقِّ . فَخَشِيَ القَومُ إن أنَا وَلَيتُ عَلَيهِم أن لايَكونَ لَهُم فِي الأَمرِ نَصيبٌ مابَقَوا ، فَأَجمَعوا إجماعاً واحِدا ، فَصَرَفُوا الوِلايَةَ إلى عُثمانَ وأخرَجوني مِنها رَجاءَ أن يَنالوها ويَتَداوَلوها إذ يَئِسوا أن يَنالوا مِن قِبَلي ، ثُمَّ قالوا : هَلُمَّ فَبايِع وإلّا جاهَدناكَ . فَبايَعتُ مُستَكرِهاً وصَبَرتُ مُحتَسِباً ، فَقالَ قائِلُهُم : يَابنَ أبي طالِبٍ إنَّكَ عَلى هذَا الأَمرِ لَحَريصٌ ، فَقُلتُ: أنتُم أحرَصُ مِنّي وأبعَدُ ، أأنَا أحرَصُ إذا طَلَبتُ تُراثي وحَقِّيَ الَّذي جَعَلَنِيَ اللّهُ ورَسولُهُ أولى بِهِ ، أم أنتُم إذ تَضرِبونَ وَجهي دونَهُ وتَحولونَ بَيني وبَينَهُ ؟ ! فَبُهِتوا ، وَاللّهُ لايَهدِي القَومَ الظّالِمينَ .
اللّهُمَّ إنّي أستَعديكَ عَلى قُرَيشٍ فَإِنَّهُم قَطَعوا رَحِمي ، وأصغَوا ۷ إنائي ، وصَغَّروا عَظيمَ مَنزِلَتي ، وأجمَعوا عَلى مُنازَعَتي حَقّاً كُنتُ أولى بِهِ مِنهُم فَسَلَبونيهِ ، ثُمَّ قالوا : ألا إنَّ فِي الحَقِّ أن تَأخُذَهُ وفِي الحَقِّ أن تَمنَعَهُ فَاصبِر كَمِداً مُتَوَخِّما أومُت مُتَأَسِّفا حَنِقاً . فَنَظَرتُ فَإِذا لَيسَ مَعي رافِدٌ ولاذابٌ ولامُساعِدٌ إلّا أهلُ بَيتي ، فَضَنِنتُ بِهِم عَنِ الهَلاكِ ، فَأَغضَيتُ عَلَى القَذى ، وتَجَرَّعتُ ريقي عَلَى الشَّجى ، وصَبَرتُ مِن كَظمِ الغَيظِ عَلى أمَرَّ مِنَ العَلقَمِ وآلَمَ لِلقَلبِ مِن حَزِّ الشِّفارِ .
حَتّى إذا نَقَمتُم عَلى عُثمانَ أتَيتُموهُفَقَتَلتُموهُ ثُمَّ جِئتُموني لِتُبايِعوني ، فَأَبَيتُ عَلَيكُم وأمسَكتُ يَدي فَنازَعتُموني ودافَعتُموني ، وبَسَطتُم يَدي فَكَفُفتُها ، ومَدَدتُم يَدي فَقَبَضتُها ، وَازدَحَمتُم عَلَيَّ حَتّى ظَنَنتُ أنَّ بَعضَكُم قاتِلُ بَعضٍ أو أنَّكُم قاتِلي ، فَقُلتُم : بايِعنا لا نَجِدُ غَيرَكَ ولا نَرضى إلّا بِكَ ، فَبايِعنا لا نَفتَرِق ولا تَختَلِف كَلِمَتُنا . فَبايَعتُكُم ودَعَوتُ النّاسَ إلى بَيعَتي ، فَمَن بايَعَ طائِعا قَبِلتُهُ مِنهُ ، ومَن أبى لَم اُكرِههُ وتَرَكتُهُ .
فَبايَعَني فيمَن بايَعَني طَلحَةُ وَالزُّبَيرُ ولَو أبَيا ما اُكرِهتُهُما كَما لَم اُكرِه غَيرَهُما ، فَما لَبِثنا إلّا يَسيرا حَتّى بَلَغَني أن خَرَجا مِن مَكَّةَ مُتَوَجِّهينَ إلَى البَصرَةِ في جَيشٍ ما مِنهُم رَجُلٌ إلّا بايَعَني وأعطانِيَ الطّاعَةَ ، فَقَدِما عَلى عامِلي وخُزّانِ بَيتِ مالي وعَلى أهلِ مِصرَ كُلُّهُم عَلى بَيعَتي وفي طاعَتي فَشَتَّتوا كَلِمَتَهُم وأفسَدوا جَماعَتَهُم ، ثُمَّ وَثَبوا عَلى شيعَتي مِنَ المُسلِمينَ فَقَتَلوا طائِفَةً مِنهُم غَدرا ، وطائِفَةً صَبرا ، وطائِفَةً عَصَّبوا بِأَسيافِهِم فَضارَبوا بهِا حَتّى لَقُوا اللّهَ صادِقينَ ، فَوَاللّهِ ، لَو لَم يُصيبوا مِنهُم إلّا رَجُلاً واحِدا مُتَعَمِّدينَ لِقَتلِهِ بِلا جُرمٍ جَرَّهُ لِحَلَّ لي بِهِ قَتلُ ذلِكَ الجَيشِ كُلِّهِ ، فَدَع ما إنَّهم قَد قَتَلوا مِنَ المُسلِمينَ أكثَرَ مِنَ العِدَّةِ الَّتي دَخَلوا بِها عَلَيهِم ، وقَد أدالَ ۸ اللّهُ مِنهُم فَبُعدا لِلقَومِ الظّالِمينَ .
ثُمَّ إنّي نَظَرتُ في أهلِ الشّامِ فَإِذا أعرابٌ أحزابٌ ، وأهلُ طَمَعٍ جُفاةٌ طَغامٌ ۹ يَجتَمِعونَ مِن كُلِّ أوبٍ ، ومَن كانَ يَنبَغي أن يُؤَدَّبَ ويُدَرَّبَ أو يُوَلّى عَلَيهِ ويُؤخَذَ عَلى يَدَيهِ ، لَيسوا مِنَ المُهاجِرينَ ولَا الأَنصارِ ، ولَا التّابِعينَ بِإِحسانٍ ، فَسِرتُ إلَيهِم فَدَعَوتُهُم إلَى الطّاعَةِ وَالجَماعَةِ ، فَأَبَوا إلّا شِقاقا ونِفاقا ونُهوضا في وُجوهِ المُسلِمينَ ، يَنضِحونَهُم ۱۰ بِالنَّبلِ ويَشجُرونَهُم ۱۱ بِالرِّماحِ .
فَهُناكَ نَهَدتُ ۱۲ إلَيهِم بِالمُسلِمينَ فَقاتَلتُهُم ، فَلَمّا عَضَّهُمُ السِّلاحُ ووَجَدوا ألَمَ الجِراحِ رَفَعُوا المَصاحِفَ يَدعونَكُم إلى ما فيها ، فَأَنبَأتُكُم أنَّهُم لَيسوا بِأَصحابِ دينٍ ولا قُرآنٍ ، وأنَّهُم رَفَعوها غَدرا ومَكيدَةً وخَديعَةً ووَهنا وضَعفا ؛ فَامضوا عَلى حَقِّكُم وقِتالِكُم ، فَأَبَيتُم عَلَيَّ وقُلتُم : اِقبَل مِنهُم ، فَإِن أجابوا إلى ما فِي الكِتابِ جامِعونا عَلى ما نَحنُ عَلَيهِ مِنَ الحَقِّ ، وإن أبَوا كانَ أعظَمَ لِحُجَّتِنا عَلَيهِم ، فَقَبِلتُ مِنكُم ، وكَفُفتُ عَنهُم إذ أبَيتُم ووَنَيتُم ، وكانَ الصُّلحُ بَينَكُم وبَينَهُم عَلى رَجُلَينِ يُحيِيانِ ما أحيَا القُرآنُ ، ويُميتانِ ما أماتَ القُرآنُ ، فَاختَلَفَ رَأيُهُما وتَفَرَّقَ حُكمُهُما ، ونَبَذا ما فِي القُرآنِ وخالَفا ما فِي الكِتابِ ، فَجَنَّبَهُمَا اللّهُ السَّدادَ ودَلّاهُما فِي الضَّلالِ ، فَنبَذا ۱۳ حُكمَهُما وكانا أهلَهُ .
فَانخَزَلَت ۱۴ فِرقَةٌ مِنّا فَتَرَكناهُم ما تَرَكونا حَتّى إذا عَثَوا فِي الأَرضِ يَقتُلونَ ويُفسِدونَ أتَيناهُم فَقُلنا : اِدفَعوا إلَينا قَتَلةَ إخوانِنا ، ثُمَّ كِتابُ اللّهِ بَينَنا وبَينَكُم ، قالوا : كُلُّنا قَتَلَهُم ، وكُلُّنَا استَحَلَّ دِماءَهُم ودِماءَكُم ، وشُدَّت عَلَينا خَيلُهُم ورِجالُهُم ، فَصَرَعَهُمُ اللّهُ مَصرَعَ الظّالِمينَ .
فَلَمّا كانَ ذلِكَ مِن شَأنِهِم أمَرتُكُم أن تَمضوا مِن فَورِكُم ذلِكَ إلى عَدُوِّكُم فَقُلتُم : كَلَّت سُيوفُنا ، ونَفِدَت نِبالُنا ، ونَصَلَت ۱۵ أسِنَّةُ رِماحِنا ، وعادَ أكثَرُها قَصدا ۱۶ فَارجِع بِنا إلى مِصرِنا لِنَستَعِدَّ بِأَحسَنِ عُدَّتِنا ، وإذا رَجَعتَ زِدتَ في مُقاتَلَتِنا عِدَّةَ مَن هَلَكَ مِنّا وفارَقَنا ، فَإِنَّ ذلِكَ أقوى لَنا عَلى عَدُوِّنا .
فَأَقبَلتُ بِكُم حَتّى إذا أطلَلتُم عَلَى الكوفَةِ أمَرتُكُم أن تَنزِلوا بِالنُّخَيلَةِ ، وأن تَلزَموا مُعَسكَرَكُم ، وأن تَضُمّوا قَواضِبَكُم ۱۷ ، وأن تُوَطِّنوا عَلَى الجِهادِ أنفُسَكُم ، ولا تُكثِروا زِيارَةَ أبنائِكُم ونِسائِكُم . فَإِنَّ أصحابَ الحَربِ المُصابِروها ، وأهلَ التَّشميرِ فيهَا الَّذينَ لا يَنوحونَ مِن سَهَرِ لَيلِهِم ولا ظَمَأِ نَهارِهِم ولا خَمَصِ بُطونِهِم ولا نَصَبِ أبدانِهِم ، فَنَزَلَت طائِفَةٌ مِنكُم مَعي مُعَذِّرَةً ، ودَخَلَت طائِفَةٌ مِنكُم المِصرَ عاصِيَةً ، فَلامَن بَقِيَ مِنكُم ثَبَتَ وصَبَرَ ، ولا مَن دَخَلَ المِصرَ عادَ إلَيَّ ورَجَعَ ، فَنَظَرتُ إلى مُعَسكَري ولَيسَ فيهِ خَمسونَ رَجُلاً ، فَلَمّا رَأَيتُ ما أتَيتُم دَخَلتُ إلَيكُم فَما قَدَرتُ عَلى أن تَخرُجوا مَعي إلى يَومِنا هذا .
فَما تَنتَظِرونَ ؟ أ ما تَرَونَ إلى أطرافِكُم قَدِ انتَقَصَت ، وإلى أمصارِكُم قَدِ افتُتِحَت ، وإلى شيعَتي بِها بَعدُ قَد قُتِلَت ، وإلى مَسالِحِكُم ۱۸ تُعرى ، وإلى بِلادِكُم تُغزى ، وأنتُم ذَوو عَدَدٍ كَثيرٍ ، وشَوكَةٍ وبَأسٍ شَديدٍ ، فَما بالُكُم ؟ للّهِِ أنتُم ! مِن أينَ تُؤتَونَ ؟ وما لَكُم أنّى تؤُفَكونَ؟ ! وأنّى تُسحَرونَ ؟ ! ولَو أنَّكُم عَزَمتُم وأجمَعتُم لَم تُراموا ، ألا إنَّ القَومَ قَدِ اجتَمَعوا وتَناشَبوا وتَناصَحوا وأنتُم قَد وَنَيتُم وتَغاشَشتُم وَافتَرَقتُم ، ما أنتُم إن أتمَمتُم عِندي عَلى ذي سَعداءَ ، فَأَنبَهوا نائِمَكُم وَاجتَمَعوا عَلى حَقِّكُم ، وتَجَرَّدوا لِحَربِ عَدُوِّكُم ، قَد بَدَتِ الرُّغوَةُ عَنِ الصَّريحِ ۱۹ وقَد بَيَّنَ الصُّبحُ لِذي عَينَينِ .
إنَّما تُقاتِلونَ الطُّلَقاءَ وأبناءَ الطُّلَقاءِ ، واُولِي الجَفاءِ ومَن أسلَمَ كَرها وكانَ لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أنفِ الإِسلامِ كُلِّهِ حَربا ، أعداءُ اللّهِ وَالسُّنَّةِ وَالقُرآنِ وأهلُ البِدَعِ وَالأَحداثِ ، ومَن كانَت بَوائِقُهُ تُتَّقى ، وكانَ عَلَى الإِسلامِ وأهلِهِ مَخوفا ، وأكَلَةُ الرُّشا وعَبَدَةُ الدُّنيا .
لَقَد اُنهِيَ إلَيَّ أنَّ ابنَ النّابِغَةِ ۲۰ لَم يُبايِع حَتّى أعطاهُ ثَمَنا وشَرَطَ أن يُؤتِيَهُ أتِيَّةً هِيَ أعظَمُ مِمّا في يَدِهِ مِن سُلطانِهِ ، ألا صَفِرَت يَدُ هذَا البائِعِ دينَهُ بِالدُّنيا ! وخَزِيَت أمانَةُ هذَا المُشتَري نُصرَةَ فاسِقٍ غادِرٍ بِأَموالِ المُسلِمينَ ! وإنَّ فيهِم لَمَن قَد شَرِبَ فيكُمُ الخَمرَ وجُلِدَ الحَدَّ فِي الإِسلامِ ، يُعرَفُ بِالفِسادِ فِي الدِّينِ وَالفِعلِ السَيِّيء ، وإنَّ فيهِم لَمَن لَم يُسلِم حَتّى رُضِخَ لَهُ عَلَى الإِسلامِ رَضيخَةً ۲۱ .
فَهؤُلاءِ قادَةُ القَومِ ، ومَن تَرَكَت ذِكرَ مَساويهِ مِن قادَتِهُم مِثلُ مَن ذُكِرَت مِنهُم بَل هُوَ شَرٌّ مِنهُم ، وهؤُلاءِ الَّذينَ ذُكِرَت لَو وَلَّوا عَلَيكُم لَأَظهَروا فيكُمُ الفَسادَ وَالكِبرَ وَالفُجورَ وَالتَّسَلُّطَ بِالجَبرِيَّةِ وَالفَسادِ فِي الأَرضِ ، وَاتَّبَعُوا الهَوى وحَكَموا بِغَيرِ الحَقِّ ، ولَأَنتُم عَلى ما كانَ فيكُم مِن تَواكُلٍ وتَخاذُلٍ خَيرٌ مِنهُم وأهدى سَبيلاً ؛ فيكُمُ العُلَماءُ وَالفُقَهاءُ وَالنُّجَباءُ وَالحُكَماءُ ، وحَمَلَةُ الكِتابِ ، وَالمُتَهَجِّدونَ بِالأَسحارِ ، وعَمّارُ المَساجِدِ بِتِلاوَةِ القُرآنِ ، أفَلا تَسخَطونَ وتَهتَمّونَ أن يُنازِعَكُمُ الوِلايَةَ عَلَيكُم سُفَهاؤُكُم ، وَالأَشرارُ الأَراذِلُ مِنكُم ؟ !
فَاسمَعوا قَولي ـ هَداكُمُ اللّهُ ـ إذا قُلتُ ، وأطيعوا أمري إذا أمَرَتُ ! فَوَاللّهِ لَئِن أطَعتُموني لا تَغوونَ ، وإن عَصَيتُموني لا تَرشُدونَ ، خُذوا لِلحَربِ اُهبَتَها ، وأعِدّوا لَها عُدَّتَها ، وأجمَعوا إلَيها فَقَد شُبَّت واوقِدَت نارُها وعَلا شَنارُها ۲۲ وتَجَرَّدَ لَكُم فيهَا الفاسِقونَ كَي يُعَذِّبوا عِبادَ اللّهِ ، ويُطفِئوا نورَ اللّهِ .
ألا إنَّهُ لَيسَ أولِياءُ الشَّيطانِ مِن أهلِ الطَّمَعِ وَالجَفاءِ وَالكِبرِ بِأَولى بِالجِدِّ في غَيِّهِم وضَلالِهِم وباطِلِهِم مِن أولِياءِ اللّهِ ، مِن أهلِ البِرِّ وَالزَّهادَةِ وَالإِخباتِ في حَقِّهِم وطاعَةِ رَبِّهم ومُناصَحَةِ إمامِهِم .
إنّي وَاللّهِ ، لَو لَقيتُهُم فَردا وهُم مِل ءُ الأَرضِ ما بالَيتُ ولَا استَوحَشتُ ، وإنّي مِن ضَلالَتِهِمُ الَّتي هُم فيها وَالهُدَى الَّذي نَحنُ عَلَيهِ لَعَلى ثِقَةٍ وبَيِّنَةٍ ويَقينٍ وصَبرٍ ، وإنّي إلى لِقاءِ رَبّي لَمُشتاقٌ ، ولِحُسنِ ثَوابِ رَبّي لَمُنتَظِرٌ ، ولكِنَّ أسَفا يَعتَريني ، وحُزنا يُخامِرُني مِن أن يَلِيَ أمرَ هذِهِ الاُمَّةِ سُفهاؤُها وفُجّارُها فَيَتَّخِذوا مالَ اللّهِ دُوَلاً ، وعِبادَ اللّهِ خَوَلاً ۲۳ وَالصّالِحينَ حَربا وَالفاسِقينَ حِزبا ، وَايمُ اللّهِ ، لَولا ذلِكَ ما أكثَرتُ تَأنيبَكُم وتَأليبَكُم وتَحريضَكُم ، ولَتَرَكتُكُم إذ وَنَيتُم وأبَيتُم حَتّى ألقاهُم بِنَفسي مَتى حَمَّ ۲۴ لي لِقاؤُهُم !
فَوَاللّهِ ، إنّي لَعَلَى الحَقِّ ، وإنّي لِلشَّهادَةِ لَمُحِبٌّ ، ف «انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَـهِدُواْ بِأَمْوَ لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذَ لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» ۲۵ ولا تُثاقِلوا إلَى الأَرضِ فَتَقِرّوا بِالخَسفِ وتَبوؤوا بِالذُّلِّ ، ويَكُن نَصيبُكُمُ الأَخسَرَ ، إنَّ أخا الحَربِ اليَقظانَ الأَرِقُ ، ومَن نامَ لَم يَنُم عَنهُ ، ومَن ضَعُفَ أودى ، ومَن تَرَكَ الجِهادَ فِي اللّهِ كانَ كَالمَغبونِ المَهينِ .
اللّهُمَّ اجمَعنا وإيّاهُم عَلَى الهُدى ، وزَهِّدنا وإيّاهُم فِي الدُّنيا ، وَاجعَلِ الآخِرَةَ خَيرا لَنا ولَهُم مِنَ الاُولى ، وَالسَّلامُ . ۲۶
1.ما لا يَقْبَلُ الرُّقْيَةَ ؛ كأنّه قد صمّ عن سماعها (لسان العرب : ج ۱۲ ص ۳۴۴ «صمم») .
2.هو الغليظُ الخشِنُ من الطعام . وقيل : غير المأدوم ، وكلّ بشع الطعم جَشبٌ (النهاية : ج ۱ ص ۲۷۲ «جشب») .
3.الجمعة : ۲ .
4.التوبة : ۱۲۸ .
5.آل عمران : ۱۶۴ .
6.الجمعة : ۴ .
7.أصغى فُلان إناءَ فُلانٍ : إذا أماله ونقَصَه من حظِّه (لسان العرب : ج ۱۴ ص ۴۶۱ «صغا») .
8.الإدالة : النُّصرة والغَلَبة (مجمع البحرين : ج ۱ ص ۶۲۰ «دول») .
9.الطَّغام : من لا عقل له ولا معرفة ، وقيل : هم أوغاد الناس وأراذلهم (النهاية : ج ۳ ص ۱۲۸ «طغم») .
10.نَضَحُوهم : رموهم (النهاية : ج ۵ ص ۷۰ «نضح») .
11.شَجَرْناهم : طعنّاهم (النهاية : ج ۲ ص ۴۴۶ «شجر») .
12.نَهَدَ : نهض ، نهد القوم لعدوّهم : إذا صمدوا له وشرعوا في قتاله (النهاية : ج ۵ ص ۱۳۴ «نهد») .
13.كذا في المصدر ، والظاهر أنّها تصحيف ، والصحيح : «فنُبذ» .
14.خَزَل : أي انفرد (النهاية : ج ۲ ص ۲۹ «خزل») .
15.الإنصال بمعنى النَّزْع والإخراج (لسان العرب : ج ۱۱ ص ۶۶۳ «نصل») .
16.أي قِطَعاً (النهاية : ج ۴ ص ۶۸ «قصد») .
17.القضِيب : السيف اللطيف الدقيق ، والجمع قواضب (لسان العرب : ج ۱ ص ۶۷۹ «قضب») .
18.المَسْلَحَة : كالثغر والمرقب يكون فيه أقوام يرقبون العدوّ لئلّا يطرقهم على غفلة ، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم ليتأهّبوا له ، والجمع مسالح (النهاية : ج ۲ ص ۳۸۸ «سلح») .
19.الصريح : الخالص من كلّ شيء (النهاية : ج ۳ ص ۲۰ «صرح») .
20.أي عمرو بن العاص ، ينسب إلى اُمّه النابغة بنت حرملة (اُسد الغابة : ج ۴ ص ۲۳۲ الرقم ۳۹۷۱) .
21.الرَّضيخَة : العطيّة (النهاية : ج ۲ ص ۲۲۸ «رضخ») .
22.الشَّنار : العيب والعار (النهاية : ج ۲ ص ۵۰۴ «شنر») .
23.خَوَلاً : أي خدما وعبيدا ، يعني أنّهم يستخدمونهم ويستعبدونهم (النهاية : ج ۲ ص ۸۸ «خول») .
24.حَمَّ لقاؤه : أي قُدِّرَ (مجمع البحرين : ج ۱ ص ۴۶۱ «حمم») .
25.التوبة : ۴۱ .
26.الغارات : ج ۱ ص ۳۰۲ عن جندب ، المسترشد : ص ۴۰۸ـ۴۲۷ ح ۱۴۱ عن شريح بن هاني نحوه وفيه إلى «فصرعهم اللّه مصرع الظالمين» ، بحار الأنوار : ج ۳۳ ص ۵۶۷ ح ۷۲۲ ؛ شرح نهج البلاغة : ج ۶ ص ۹۴ عن جندب وراجع نهج البلاغة : الكتاب ۶۲ و الإمامة والسياسة : ج ۱ ص ۱۷۴ .
أقول : روى السيّد ابن طاووس عن «كتاب الرسائل» للشيخ الكليني هذا الكتاب بالتفصيل (راجع كشف المحجّة : ص ۲۳۵ ـ ۲۶۹) .