۶ / ۴
واجِباتُ مالِكٍ في حُكومَةِ مِصرَ ۱
۲۸۰۱.الإمام عليّ عليه السلامـ في عَهدِهِ إلى مالِكٍ الأَشتَرِ حينَ وَلّاهُ مِصرَ وأعمالَها ـ:بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيم . هذا ما أمَرَ بِهِ عَبدُ اللّهِ عَلِيٌّ أميرُ المُؤمِنينَ مالِكَ بنَ الحارِثِ الأَشتَرَ في عَهدِهِ إلَيهِ حينَ وَلّاهُ مِصرَ : جِبايَةَ خَراجِها ، ومُجاهَدَةَ عَدُوِّها ، وَاستِصلاحَ أهلِها ، وعِمارَةَ بِلادِها . أمَرَهُ بِتَقوَى اللّهِ ، وإيثارِ طاعَتِهِ ، وَاتِّباعِ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ في كِتابِهِ مِن فَرائِضِهِ وسُنَنِهِ الَّتي لا يَسعَدُ أحَدٌ إلّا بِاتِّباعِها ، ولا يَشقى إلّا مَعَ جُحودِها وإضاعَتِها ، وأن يَنصُرَ اللّهَ بِيَدِهِ وقَلبِهِ ولِسانِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَد تَكَفَّلَ بِنَصرِ مَن نَصَرَهُ ، إنَّهُ قَوِيٌّ عَزيزٌ .
وأمَرَهُ أن يكسِرَ مِن نَفسِهِ عِندَ الشَّهَواتِ ؛ فَإِنَّ النَّفسَ أمّارَةٌ بِالسّوءِ إلّا ما رَحِمَ رَبّي ، إنَّ رَبّي غَفورٌ رَحيمٌ . «وأن يَعتَمِدَ كِتابَ اللّهِ عِندَ الشُّبَهاتِ ؛ فَإِنَّ فيهِ تِبيانَ كُلِّ شَيءٍ ، وهُدىً ورَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ . وأن يَتَحرّى رِضَا اللّهِ ، ولا يَتَعَرَّضَ لِسَخَطِهِ ، ولا يُصِرَّ عَلى مَعصِيَتِهِ ، فَإِنَّهُ لا مَلجَأَ مِنَ اللّهِ إلّا إلَيهِ» .
ثُمَّ اعلَم يا مالِكُ أنّي وَجَّهتُكَ إلى بِلادٍ قَد جَرَت عَلَيها دُوَلٌ قَبلَكَ مِن عَدلٍ وجَورٍ ، وأنَّ النّاسَ يَنظُرونَ مِن اُمورِكَ في مِثلِ ما كُنتَ تَنظُرُ فيهِ مِن اُمورِ الوُلاةِ قَبلَكَ ، ويَقولونَ فيكَ ما كنتَ تَقولُ فيهِم ، وإنَّما يُستَدَلُّ عَلَى الصّالِحينَ بِما يُجرِي اللّهُ لَهُم عَلى ألسُنِ عِبادِهِ ، فَليَكُن أحَبَّ الذَّخائِرِ إلَيكَ ذَخيرَةُ العَمَلِ الصّالِحِ «بِالقَصدِ فيما تَجمَعُ وما تَرعى بِهِ رَعِيَّتَكَ» ، فَاملِك هَواكَ ، وشُحَّ بِنَفسِكَ عَمّا لا يَحِلُّ لَكَ ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفسِ الإِنصافُ مِنها فيما أحبَبتَ وكَرِهتَ .
وأشعِر قَلبَكَ الرَّحمَةَ لِلرَّعِيَّةِ ، وَالمَحَبَّةَ لَهُم ، وَاللُّطفَ بِالإِحسانِ إلَيهِم ، ولا تَكونَنَّ عَلَيهِم سَبُعاً ضارِياً تَغتَنِمُ اُكلَهُم ؛ فَإِنَّهُم صِنفانِ ؛ إمّا أخٌ لَكَ فِي الدّينِ ، وإمّا نَظيرٌ لَكَ فِي الخَلقِ ، يَفرُطُ ۲ مِنهُمُ الزَّلَلَ ، وتَعرِضُ لَهُمُ العِلَلُ ، ويُؤتى على أيديهِم فِي العَمدِ وَالخَطَاَء، فَأَعطِهِم مِن عَفوِكَ وصَفحِكَ مِثلَ الَّذي تُحِبُّ أن يُعطِيَكَ اللّهُ مِن عَفوِهِ ؛ فَإِنَّكَ فَوقَهُم ، ووالِي الأَمرِ عَلَيكَ فَوقَكَ ، وَاللّهُ فَوقَ مَن وَلّاكَ بِما عَرَّفَكَ مِن كِتابِهِ ، وبَصَّرَكَ مِن سُنَنِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله .
عَلَيكَ بِما كَتَبنا لَكَ في عَهدِنا هذا ، لا تَنصِبَنَّ نَفسَكَ لِحَربِ اللّهِ ؛ فَإِنَّهُ لا يَدَ لَكَ بِنِقمَتِهِ ، ولا غِنى بِكَ عَن عَفوِهِ ورَحمَتِهِ . فَلا تنَدَمَنَّ عَلى عَفوٍ ، ولا تَبجَحَنَّ ۳ بِعُقوبَةٍ ، ولا تَسرَعَنَّ إلى بادِرَةٍ ۴ وَجَدتَ عَنها مَندوحَةً ۵ ، ولا تَقولَنَّ : إنّي مُؤَمَّرٌ ؛ آمُرُ فَاُطاعُ ؛ فَإِنَّ ذلِكَ إدغالٌ ۶ فِي القَلبِ ، ومَنهَكَةٌ ۷ لِلدّينِ ، وتَقَرُّبٌ مِنَ الفِتَنِ ، فَتَعَوَّذ بِاللّهِ مِن دَركِ الشِّقاءِ .
وإذا أعجَبَكَ ما أنتَ فيهِ مِن سُلطانِكَ فَحَدَثَت لَكَ بِهِ اُبَّهَةً أو مَخيلَةً فَانظُر إلى عِظَمِ مُلكِ اللّهِ فَوقَكَ ، وقُدرَتِهِ مِنكَ عَلى ما لا تَقدِرُ عَلَيهِ مِن نَفسِكَ ؛ فَإِنَّ ذلِكَ يُطامِنُ ۸ إلَيكَ مِن طِماحِكَ ۹ ، ويَكُفُّ عَنكَ مِن غَربِكَ ۱۰ ، ويَفيءُ إلَيكَ ما عَزَبَ ۱۱ مِن عَقلِكَ .
وإيّاكَ ومُساماتَهُ في عَظَمَتِهِ ، أو التَّشَبُّهَ بِهِ في جَبَروتِهِ ؛ فَإِنَّ اللّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبّارٍ ، ويُهينُ كُلَّ مُختالٍ فَخورٍ .
أنصِفِ اللّهَ ، وأنصِفِ النّاسَ مِن نَفسِكَ ومِن خاصَّتِكَ ومِن أهلِكَ ومَن لَكَ فيهِ هَوىً مِن رَعِيَّتِكَ ؛ فَإِنَّكَ إلّا تَفعَل تَظلِم ، ومَن ظَلَمَ عِبادَ اللّهِ كانَ اللّهُ خَصمَهُ دونَ عِبادِهِ ، ومَن خاصَمَهُ اللّهُ أدحَضَ حُجَّتَهُ ، وكانَ للّهِِ حَرباً حَتّى يَنزِعَ ويَتوبَ .
ولَيسَ شَيءٌ أدعى إلى تَغييرِ نِعمَةٍ مِن إقامَةٍ عَلى ظُلمٍ ؛ فَإِنَّ اللّهَ يَسمَعُ دَعوَةَ المَظلومينَ ، وهُوَ لِلظّالِمينَ بِمِرصادٍ ، ومَن يَكُن كَذلِكَ فَهُوَ رَهينُ هَلاكٍ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ .
ولَيَكُن أحَبَّ الاُمورِ إلَيكَ أوسَطُها فِي الحَقِّ ، وأعَمُّها فِي العَدلِ ، وأجمَعُها لِلرَّعِيَّةِ ؛ فَإِنَّ سُخطَ العامَّةِ يُجحِفُ بِرِضَى الخاصَّةِ ، وإنَّ سُخطَ الخاصَّةِ يُغتَفَرُ مَعَ رِضَى العامَّةِ . ولَيسَ أحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أثقَلَ عَلَى الوالي مَؤونَةً فِي الرَّخاءِ ، وأقَلَّ لَهُ مَعونَةً فِي البَلاءِ ، وأكرَهَ لِلإِنصافِ ، وأسأَلَ بِالإِلحافِ ۱۲ ، وأقَلَّ شُكراً عِندَ الإِعطاءِ ، وأبطَأَ عُذراً عِندَ المَنعِ ، وأضعَفَ صَبراً عِندَ مُلِمّاتِ الاُمورِ ، مِنَ الخاصَّةِ ، وإنَّما عَمودُ الدّينِ وجِماعُ المُسلِمينَ وَالعُدَّةُ لِلأَعداءِ أهلُ العامَّةِ مِنَ الاُمَّةِ ، فَليَكُن لَهُم صِغوُكَ ، وَاعمِد لِأَعَمِّ الاُمورِ مَنفَعَةً وخَيرِها عاقِبَةً ، ولا قُوَّةَ إلّا بِاللّهِ .
وَليَكُن أبعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنكَ وأشنَأَهُم عِندَكَ أطلَبُهُم لِعُيوبِ النّاسِ ؛ فَإِنَّ فِي النّاسِ عُيوباً الوالي أحَقُّ مَن سَتَرَها ، فَلا تَكشِفَنَّ ما غابَ عَنكَ ، وَاستُرِ العَورَةَ مَا استَطَعتَ ؛ يَستُرِ اللّهُ مِنكَ ما تُحِبُّ سَترَهُ مِن رَعِيَّتِكَ .
وأطلِق عَنِ النّاسِ عُقَدَ كُلِّ حِقدٍ ، وَاقطَع عَنكَ سَبَبَ كُلِّ وِترٍ ، «وَاقبَلِ العُذرَ . وَادرَإِ الحُدودَ بِالشُّبَهاتِ» .
وتَغابَ عَن كُلِّ ما لا يَضِحُ ۱۳ لك ، ولا تَعجَلَنَّ إلى تَصديقِ ساعٍ ؛ فَإِنَّ السّاعِيَ غاشٌّ وإن تَشَبَّهَ بِالنّاصِحينَ .
لا تُدخِلَنَّ في مَشوِرَتِكَ بَخيلاً يَخذُلُكَ عَنِ الفَضلِ ، ويَعِدُكَ الفَقرَ ، ولا جَباناً يُضعِفُ عَلَيكَ الاُمورَ ، ولا حَريصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالجَورِ ؛ فَإِنَّ البُخلَ وَالجَورَ ۱۴ وَالحِرصَ غَرائِزُ شَتّى يَجمَعُها سوءُ الظَّنِّ بِاللّهِ ، كُمونُها فِي الأَشرارِ .
أيقِن أنَّ شَرَّ وُزَرائِكَ مَن كانَ لِلأَشرارِ وَزيراً ، ومَن شَرِكَهُم فِي الآثامِ وقامَ بِاُمورِهِم في عِبادِ اللّهِ ؛ فَلا يَكونَنَّ لَكَ بِطانَةً ۱۵ ، «تُشرِكُهُم في أمانَتِكَ كَما شَرِكوا في سُلطانٍ غَيرِكَ فَأَردَوهُم وأورَدوهُم مَصارِعَ السّوءِ .
ولا يُعجِبَنَّكَ شاهِدُ ما يَحضُرونَكَ بِهِ» ؛ فَإِنَّهُم أعوانُ الأَثَمَةِ ، وَإخوانُ الظَّلَمَةِ ، وعُبابُ ۱۶ كُلِّ طَمَعٍ ودَغَلٍ ۱۷ ، وأنتَ واجِدٌ مِنهُم خَيرَ الخَلَفِ مِمَّن لَهُ مِثلُ أدَبِهِم ونَفاذِهِم مِمَّن قَد تَصَفَّحَ الاُمورَ ، فَعَرَفَ مَساوِيَها بِما جَرى عَلَيهِ مِنها ، فَاُولئِكَ أخَفُّ عَلَيكَ مَؤونَةً ، وأحسَنُ لَكَ مَعونَةً ، وأحنى عَلَيكَ عَطفاً ، وأقَلُّ لِغَيرِكَ إلفاً ، لَم يُعاوِن ظالِماً عَلى ظُلمِهِ ، ولا آثِماً عَلى إثمِهِ ، «ولَم يَكُن مَعَ غَيرِكَ لَهُ سيرَةٌ أجحَفَت بِالمُسلِمينَ وَالمُعاهِدينَ» ؛ فَاتَّخِذ اُولئِكَ خاصَّةً لِخَلَوتِكَ ومَلَاءِكَ .
ثُمَّ ليَكُن آثَرُهُم عِندَكَ أقوَلَهُم بِمُرِّ الحَقِّ ، «وأحوَطَهُم عَلَى الضُّعَفاءِ بِالإِنصافِ ، وأقَلَّهُم لَكَ مُناظَرَةً فيما يَكونُ مِنكَ مِمّا كَرِهَ اللّهُ لِأَولِيائِهِ واقِعاً ذلِكَ مِن هَواكَ حَيثُ وَقَعَ ؛ فَإِنَّهُم يَقِفونَكَ عَلَى الحَقِّ ، ويُبَصِّرونَكَ ما يَعودُ عَلَيكَ نَفعُهُ» . وَالصَق بِأهلِ الوَرَعِ وَالصِّدقِ وذَوِي العُقولِ وَالأَحسابِ ، ثُمَّ رُضهُم عَلى ألّا يُطروكَ ، ولا يُبَجِّحوكَ بِباطلٍ لَم تَفعَلهُ ؛ فَإِن كَثرَةَ الإِطراءِ تُحدِثُ الزَّهوَ ، وتُدني مِنَ الغِرَّةِ ، «وَالإِقرارُ بِذلِكَ يوجِبُ المَقتَ مِنَ اللّهِ» .
لا يَكونَنَّ المحُسِنُ وَالمُسيءُ عِندَكَ بِمَنزِلَةٍ سَواءٍ ؛ فَإِنَّ ذلِكَ تَزهيدٌ لِأَهلِ الإِحسانِ ، فِي الإِحسانِ ، وتَدريبٌ لِأَهلِ الإِساءَةِ عَلَى الإِساءَةِ ، فَأَلزِم كُلّاً مِنهُم ما ألزَمَ نَفسَهُ ؛ أدَباً مِنكَ يَنفَعُكَ اللّهُ بِهِ ، وتَنفَعُ بِهِ أعوانَكَ .
ثُمَّ اعلَم أنَّهُ لَيسَ شَيءٌ بِأَدعى لِحُسنِ ظَنِّ والٍ بِرَعِيَّتِهِ مِن إحسانِهِ إلَيهِم ، وتَخفيفِهِ المَؤوناتِ عَلَيهِم ، وقِلَّةِ استِكراهِهِ إيّاهُم عَلى ما لَيسَ لَهُ قِبَلَهُم ، فَليَكُن في ذلِكَ أمرٌ يَجتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسنُ ظَنِّكَ بِرَعِيَّتِكَ ؛ فَإِنَّ حُسنَ الظَّنِّ يَقطَعُ عَنكَ نَصَباً طَويلاً ، وإنَّ أحَقَّ مَن حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَن حَسُنَ بِلاؤُكَ عِندَهُ ، وأحَقَّ مَن ساءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَن ساءَ بِلاؤُكَ عِندَهُ ، «فَاعرِف هذِهِ المَنزِلَةَ لَكَ وعَلَيكَ لِتَزِدَكَ بَصيرَةً في حُسنِ الصُّنعِ ، وَاستِكثارِ حُسنِ البَلاءِ عِندَ العامَّةِ ، مَعَ ما يوجِبُ اللّهُ بِها لَكَ فِي المَعادِ» .
ولا تَنقُض سُنَّةً صالِحَةً عَمِلَ بِها صُدورُ هذِهِ الاُمَّةِ ، وَاجتَمَعَت بِهَا الاُلفَةُ ، وصَلَحَت عَلَيهَا الرَّعِيَّةُ . ولا تُحدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيءٍ مِمّا مَضى مِن تِلكَ السُّنَنِ ؛ فَيَكونَ الأَجرُ لِمَن سَنَّها ، وَالوِزرُ عَلَيكَ بِما نَقَضتَ مِنها .
وأكثِر مُدارَسَةَ العُلَماءِ ، ومُثافَنَةَ ۱۸ الحُكَماءِ ، في تَثبيتِ ما صَلَحَ عَلَيهِ أهلُ بِلادِكَ ، وإقامَةِ مَا استَقامَ بِهِ النّاسُ مِن قَبلِكَ ؛ «فَإِنَّ ذلِكَ يُحِقُّ الحَقَّ ، ويَدفَعُ الباطِلَ ، ويُكتَفى بِهِ دَليلاً ومِثالاً لِأَنَّ السُّنَنَ الصّالِحَةَ هِيَ السَّبيلُ إلى طاعَةِ اللّهِ» .
ثُمَّ اعلَم أنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقاتٌ ، لا يَصلُحُ بَعضُها إلّا بِبَعضٍ ، ولا غِنى بِبَعضِها عَن بَعضٍ ؛ فَمِنها جُنودُ اللّهِ ، ومِنها كُتّابُ العامَّةِ وَالخاصَّةِ ، ومِنها قُضاةُ العَدلِ ، ومِنها عُمّالُ الإِنصافِ وَالرِّفقِ ، ومِنها أهلُ الجِزيَةِ وَالخَراجِ مِن أهلِ الذِّمَّةِ ومُسلِمَةِ النّاسِ ، ومِنهَا التُّجّارُ وأهلُ الصِّناعاتِ ، ومِنهَا الطَّبَقَةُ ۱۹ السُّفلى مِن ذَوِي الحاجَةِ وَالمَسكَنَةِ ، وكُلٌّ قَد سَمَّى اللّهُ سَهمَهُ ، ووَضَعَ عَلى حَدِّ فَريضَتِهِ في كِتابِهِ أو سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ، وعَهداً عِندَنا مَحفوظاً .
فَالجُنودُ ـ بِإِذنِ اللّهِ ـ حُصونُ الرَّعِيَّةِ ، وزَينُ الوُلاةِ ، وعِزُّ الدّينِ ، وسَبيلُ الأَمنِ وَالخَفضِ ، ولَيسَ تَقومُ الرَّعِيَّةُ إلّا بِهِم . ثُمَّ لا قِوامَ لِلجُنودِ إلّا بِما يُخرِجُ اللّهُ لَهُم مِنَ الخَراجِ الَّذي يَصِلونَ بِهِ إلى جِهادِ عَدُوِّهِم ، ويَعتَمِدونَ عَلَيهِ ، ويَكونُ مِن وَراءِ حاجاتِهِم .
ثُمَّ لا بَقاءَ لِهذَينِ الصِّنفَينِ إلّا بِالصِّنفِ الثّالِثِ مِنَ القُضاةِ وَالعُمّالِ وَالكُتّابِ ؛ لِما يُحكِمونَ مِنَ الأُمورِ ، ويُظهِرونَ مِنَ الإِنصافِ ، ويَجمَعونَ مِنَ المَنافِعِ ، ويُؤمَنونَ عَلَيهِ مِن خَواصِّ الاُمورِ وعَوامِّها .
ولا قِوامَ لَهُم جَميعاً إلّا بِالتُّجّارِ وذَوِي الصِّناعاتِ فيما يَجمَعونَ مِن مَرافِقِهِم ، ويُقيمونَ مِن أسواقِهِم ، ويَكفونَهُم مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيديهِم مِمّا لا يَبلُغُهُ رِفقُ غَيرِهِم .
ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفلى مِن أهلِ الحاجَةِ وَالمَسكَنَةِ الَّذينَ يَحِقُّ رِفدُهُم ۲۰ ، وفي فَيءِ اللّهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ ، ولِكُلٍّ عَلَى الوالي حَقٌّ بِقَدرٍ يُصلِحُهُ ، ولَيسَ يَخرُجُ الوالي مِن حَقيقَةِ ما ألزَمَهُ اللّهُ مِن ذلِكَ إلّا بالإهتِمامِ والاِستِعانَةِ بِاللّهِ وتَوطينِ نَفسِهِ عَلى لُزومِ الحَقِّ وَالصَّبرِ فيما خَفَّ عَلَيهِ وثَقُلَ . فَوَلِّ مِن جُنودِكَ أنصَحَهُم في نَفسِكَ للّهِِ ولِرَسولِهِ ولِاءِمامِكَ ، وأنقاهُم جَيباً ، وأفضَلَهُم حِلماً ، وأجمَعَهُم عِلماً وسِياسَةً ، مِمَّن يُبطِئُ عَنِ الغَضَبِ ، ويَسرَعُ إلَى العُذرِ ، ويَرأَفُ بِالضُّعَفاءِ ، ويَنبو ۲۱ عَلَى الأَقوِياءِ ، مِمَّن لا يُثيرُهُ العَنفُ ، ولا يَقعُدُ بِهِ الضَّعفُ .
ثُمَّ الصَق بِذَوِي الأَحسابِ وأهلِ البُيوتاتِ الصّالِحَةِ والسَّوابِقِ الحَسَنَةِ ، ثُمَّ أهلِ النَّجدَةِ وَالشَّجاعَةِ وَالسَّخاءِ وَالسَّماحَةِ ؛ فَإِنَّهُم جِماعٌ مِنَ الكَرَمِ ، وشُعَبٌ مِنَ العُرفِ ، يَهدونَ إلى حُسنِ الظَّنِّ بِاللّهِ ، وَالإِيمانِ بِقَدَرِهِ .
ثُمَّ تَفَقَّد اُمورَهُم بِما يَتَفَقَّدُ الوالدُ مِن وَلَدِهِ ، ولا يَتَفاقَمَنَّ ۲۲ في نَفسِكَ شَيءٌ قَوَّيتَهُم بِهِ . ولا تَحقِرَنَّ لُطفاً تَعاهَدتَهُم بِهِ وإن قَلَّ ؛ فَإِنَّهُ داعِيَةٌ لَهُم إلى بَذلِ النَّصيحَةِ وحسُنِ الظَّنِّ بِكَ . فَلا تَدَع تَفَقُّدَ لَطيفِ اُمورِهِمُ اتِّكالاً عَلى جَسيمِها ؛ فَإِنَّ لِليَسيرِ مِن لُطفِكَ مَوضِعاً يَنتَفِعونَ بِهِ ، ولِلجَسيمِ مَوقِعاً لا يَستَغنونَ عَنهُ .
وَليَكُن آثَرُ رُؤوسِ جُنودِكَ مَن واساهُم في مَعونَتِهِ ، وأفضَلَ عَلَيهِم في بَذلِهِ مِمَّن يَسَعُهُم ويَسَعُ مَن وَراءَهُم مِنَ الخُلوفِ ۲۳ مِن أهلِهِم ، حَتّى يَكونَ هَمُّهُم هَمّاً واحِداً في جِهادِ العَدُوِّ .
«ثُمَّ واتِر إعلامَهم ذاتَ نَفسِكَ في إيثارِهِم وَالتَّكرِمَةِ لَهُم ، وَالإِرصادِ بِالتَّوسِعَةِ . وحَقِّق ذلِكَ بِحُسنِ الفِعالِ وَالأَثَرِ وَالعَطفِ» ؛ فَإِنَّ عَطفَكَ عَلَيهِم يَعطِفُ قُلوبَهُم عَلَيكَ .
وإنَّ أفضَلَ قُرَّةِ العُيونِ لِلوُلاةِ استِفاضَةُ العَدلِ فِي البِلادِ ، وظُهورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لا تَظهَرُ مَوَدَّتَهُم إلّا بِسَلامَةِ صُدورِهِم ، ولا تَصِحُّ نَصيحَتُهُم إلّا بِحَوطَتِهِم عَلى وُلاةِ اُمورِهِم ، وقِلَّةِ استِثقالِ دَولَتِهِم ، وتَركِ استِبطاءِ انقِطاعِ مُدَّتِهِم .
«ثُمَّ لا تَكِلَنَّ جُنودَكَ إلى مَغنَمٍ وَزَّعتَهُ بَينَهُم ، بَل أحدِث لَهُم مَعَ كُلِّ مَغنَمٍ بَدَلاً مِمّا سِواهُ مِمّا أفاءَ اللّهُ عَلَيهِم ، تَستَنصِر بِهِم بِهِ ، ويَكونَ داعِيَةً لَهُم إلَى العَودَةِ لِنَصرِ اللّهِ ولِدينِهِ . وَاخصُص أهلَ النَّجدَةِ في أمَلَهِم إلى مُنتَهى غايَةِ آمالِكَ مِنَ النَّصيحَةِ بِالبَذلِ» ، وحُسنِ الثَّناءِ عَلَيهِم ، ولَطيفِ التَّعَهُّدِ لَهُم رَجُلاً رَجُلاً وما أبلى في كُلِّ مَشهَدٍ ؛ فَإِنَّ كَثرَةَ الذِّكرِ مِنكَ لِحُسنِ فِعالِهِم تَهُزُّ الشُّجاعَ ، وتُحَرِّضُ النّاكِلَ إن شاءَ اللّهُ .
«ثُمَّ لا تَدَع أن يَكونَ لَكَ عَلَيهِم عُيونٌ ۲۴ مِن أهلِ الأَمانَةِ وَالقَولِ بِالحَقِّ عِندَ النّاسِ ، فَيَثبِتونَ بَلاءَ كُلِّ ذي بَلاءٍ مِنهُم لِيَثِقَ اُولئِكَ بِعِلمِكَ بِبَلائِهِم» .
ثُمَّ اعرِف لِكُلِّ امرِئٍ مِنهُم ما أبلى ، ولا تَضُمَّنَّ بَلاءَ امرِئٍ إلى غَيرِهِ ، ولا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دونَ غايَةِ بَلائِهِ ، «وكافِ كُلّاً مِنهُم بِما كانَ مِنهُ ، وَاخصُصهُ مِنكَ بِهَزِّهِ» . ولا يَدعُوَنَّكَ شَرَفُ امرِئٍ إلى أن تُعَظِّمَ مِن بَلائِهِ ما كانَ صَغيراً ، ولا ضِعَةُ امرِئٍ عَلى أن تُصَغِّرَ مِن بَلائِهِ ما كانَ عَظيماً . «ولا يُفسِدَنَّ امرَأً عِندَكَ عِلَّةٌ إن عَرَضَت لَهُ ، ولا نُبُوَّةُ حَديثٍ لَهُ قَد كانَ لَهُ فيها حُسنُ بِلاءٍ ، فَإِنَّ العِزَّةَ للّهِِ يُؤتيهِ مَن يَشاءُ وَالعاقِبَةُ لِلمُتَّقينَ .
وإنِ استُشهِدَ أحدٌ مِن جُنودِكَ وأهلِ النِّكايَةِ في عَدُوِّكَ فَاخلُفهُ ۲۵ في عِيالِهِ بِما يَخلُفُ بِهِ الوَصِيُّ الشَّفيقُ المُوَثَّقُ بِهِ ؛ حَتّى لا يُرى عَلَيهِم أثَرُ فَقدِهِ ؛ فَإِنَّ ذلِكَ يُعطِفُ عَلَيكَ قُلوبَ شيعَتِكَ ، ويَستَشعِرونَ بِهِ طاعَتَكَ ، ويَسلَسونَ ۲۶ لِرُكوبِ مَعاريضِ التَّلَفِ الشَّديدِ في وِلايَتِكَ .
وقَد كانَت مِنَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله سُنَنٌ فِي المُشرِكينَ ومِنّا بَعدَهُ سُنَنٌ ، قَد جَرَت بِها سُنَنٌ وأمثالٌ فِي الظّالِمينَ ، ومَن تَوَجَّهَ قِبلَتَنا ، وتَسمّى بِدينِنا» ؛ وقَد قالَ اللّهُ لِقَومٍ أحَبَّ إرشادَهُم : «يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَـزَعْتُمْ فِى شَىْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ «إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ ذَ لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً» ۲۷ ، وقالَ : «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنـبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَـنَ إِلَا قَلِيلاً» ۲۸ » فَالرَّدُ إلَى اللّهِ الأَخذُ بِمُحكَمِ كِتابِهِ ، وَالرَّدُّ إلَى الرَّسولِ الأَخذُ بِسُنَّتِهِ الجامِعَةِ غَيرِ المُتَفَرِّقَةِ ، «ونَحنُ أهلُ رَسولِ اللّهِ الَّذينَ نَستَنبِطُ المُحكَمَ مِن كِتابِهِ ، ونَميزُ المُتَشابِهِ مِنهُ ، ونَعرِفُ النّاسِخَ مِمّا نَسَخَ اللّهُ ووَضَعَ إصرَهُ .
فَسِر في عَدُوِّكَ بِمِثلِ ما شاهَدتَ مِنّا في مِثلِهِم مِنَ الأَعداءِ ، وواتِر إلَينَا الكُتُبَ بِالأَخبارِ بِكُلِّ حَدَثٍ يَأتِكَ مِنّا أمرٌ عامٌّ ، وَاللّهُ المُستَعانُ .
ثُمَّ انظُر في أمرِ الأِحكامِ بَينَ النّاسَ بَنِيَّةٍ صالِحَةٍ ؛ فَإِنَّ الحُكمَ في إنصافِ المَظلومِ مِنَ الظّالِمِ وَالأَخذِ لِلضَّعيفِ مِنَ القَوِيِّ وإقامَةِ حُدودِ اللّهِ عَلى سُنَّتِها ومِنهاجِها مِمّا يُصلِحُ عِبادَ اللّهِ وبِلادَهُ» . فَاختَر لِلحُكمِ بَينَ النّاسِ أفضَلَ رَعِيَّتِكَ في نَفسِكَ ، «وأنفُسِهِم لِلعِلمِ وَالحِلمِ وَالوَرَعِ وَالسَّخاءِ» ، مِمَّن لا تَضيقُ بِهِ الاُمورُ ، ولا تُمحِكُهُ ۲۹ الخُصومُ ، ولا يَتَمادى في إثباتِ الزَّلَّةِ ، ولا يَحصَرُ مِنَ الفَيءِ إلَى الحَقِّ إذا عَرَفَهُ ، ولا تُشرِفُ نَفسُهُ على طَمَعٍ ، ولا يَكتَفي بِأَدنى فَهمٍ دونَ أقصاهُ ، وأوقَفَهُم فِي الشُّبَهاتِ ، وآخَذَهُم بِالحُجَجِ ، وأقَلَّهُم تَبَرُّماً بِمُراجِعَةِ الخُصومِ ، وأصبَرَهُم عَلى تَكَشُّفِ الاُمورِ ، وأصرَمَهُم عِندَ اتِّضاحِ الحُكمِ ، مِمَّن لا يَزدَهيهِ إطراءٌ ، ولا يَستَميلُهُ إغراقٌ ، ولا يَصغى ۳۰ لِلتَّبليغِ ؛ فَوَلِّ قَضاءَكَ مَن كانَ كَذلِكَ ، وهُم قَليلٌ .
ثُمَّ أكثِر تَعَهُّدَ قَضائِهِ ، وَافتَح لَهُ فِي البَذلِ ما يُزيحُ عِلَّتَهُ ، ويَستَعينُ بِهِ ، وتَقِلُّ مَعَهُ حاجَتُهُ إلَى النّاسِ ، وأعطِهِ مِنَ المَنزِلَةِ لَدَيكَ ما لا يَطمَعُ فيهِ غَيرُهُ مِن خاصَّتِكَ ؛ لِيَأمَنَ بِذلِكَ اغتِيالَ الرِّجالِ إيّاهُ عِندَكَ . «وأحسِن تَوقيرَهُ في صُحبَتِكَ ، وقُربَهُ في مَجلِسِكَ ، وأمضِ قَضاءَهُ ، وأنفِذ حُكمَهُ ، وَاشدُد عَضُدَهُ ، وَاجعَل أعوانَهُ خِيارَ مَن تَرضى مِن نُظَرائِهِ مِنَ الفُقَهاءِ وأهلِ الوَرَعِ وَالنَّصيحَةِ للّهِِ ولِعِبادِ اللّهِ ؛ لِيُناظِرَهُم فيما شُبِّهَ عَلَيهِ ، ويَلطِفَ عَلَيهِم لِعِلمِ ما غابَ عَنهُ ، ويَكونونَ شُهَداءَ عَلى قَضائِهِ بَينَ النّاسِ إن شاءَ اللّهُ .
ثُمَّ حَمَلَةُ الأَخبارِ لِأَطرافِكَ قُضاةٌ تَجتَهِدُ فيهِم نَفسُهُ ، لا يَختلِفونَ ولا يَتَدابَرونَ في حُكمِ اللّهِ وسُنَّةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؛ فَإِنَّ الاِختِلافِ فِي الحُكمِ إضاعَةٌ لِلعَدلِ ، وغِرَّةٌ فِي الدّينِ ، وسَبَبٌ مِنَ الفُرقَةِ . وقَد بَيَّنَ اللّهُ ما يَأتونَ وما يُنفِقونَ ، وأمَرَ بِرَدِّ ما لا يَعلمونَ إلى مَنِ استَودَعَهُ اللّهُ عِلمَ كِتابِهِ ، وَاستَحفَظَهُ الحُكمَ فيهِ ، فَإِنَّما اختِلافُ القُضاةِ في دُخولِ البَغيِ بَينَهُم ، وَاكِتفاءُ كُلِّ امرِئٍ مِنهُم بِرَأيِهِ دونَ مَن فَرَضَ اللّهُ وِلايَتَهُ لَيسَ يُصلِحُ الدّينَ ولا أهلَ الدّينِ عَلى ذلِكَ .
ولكِن عَلَى الحاكِمِ أن يَحكُمَ بِما عِندَهُ مِنَ الأَثَرِ وَالسُّنَّةِ ، فَإِذا أعياهُ ذلِكَ رَدَّ الحُكمَ إلى أهلِهِ ، فَإِن غابَ أهلُهُ عَنهُ ناظَرَ غَيرَهُ مِن فُقَهاءِ المُسلِمينَ ؛ لَيسَ لَهُ تَركُ ذلِكَ إلى غَيرِهِ ، ولَيسَ لِقاضِيَينِ مِن أهلِ المِلَّةِ أن يُقيما عَلَى اختِلافٍ فِي الحُكمِ دونَ ما رُفِعَ ذلِكَ إلى وَلِيٍّ الأَمرِ فيكُم ، فَيَكونَ هُوَ الحاكِمَ بِما عَلَّمَهُ اللّهُ ، ثُمَّ يَجتَمِعانِ عَلى حُكمِهِ فيما وافَقَهُما أو خالَفَهُما» . فَانظُر في ذلِكَ نَظَراً بَليغاً ، فَإِنَّ هذَا الدّينَ قَد كانَ أسيراً بِأيدِي الأَشرارِ ، يُعمَلُ فيهِ بِالهَوى ، وتُطلَبُ بِهِ الدُّنيا .
«وَاكُتب إلى قُضاةِ بُلدانِكَ فَليَرفَعوا إلَيكَ كُلَّ حُكمٍ اختَلَفوا فيهِ عَلى حُقوقِهِ ، ثُمَّ تَصَفَّح تِلكَ الأَحكامَ ؛ فَما وافَقَ كِتابَ اللّهِ وسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَالأَثَرَ مِن إمامِكَ فَأَمضِهِ وَاحمِلهُم عَلَيهِ ، ومَا اشتَبَهَ عَلَيكَ فَاجمَع لَهُ الفُقَهاءَ بِحَضرَتِكَ فَناظِرهُم فيهِ ، ثُمَّ أمضِ ما يَجتَمِعُ عَلَيهِ أقاويلُ الفُقَهاءِ بِحَضرَتِكَ مِنَ المُسلِمينَ ، فَإِنَّ كُلَّ أمرٍ اختَلَفَ فيهِ الرَّعِيَّةُ مَردودٌ إلى حُكمِ الإِمامِ ، وعَلَى الإِمامِ الإِستِعانَةُ بِاللّهِ ، والإِجتِهادِ في إقامَةِ الحُدودِ ، وجَبرِ الرَّعِيَّةِ عَلى أمرِهِ ، ولا قُوَّةَ إلّا بِاللّهِ» .
ثُمَّ انظُر إلى اُمورِ عُمّالِكَ ، وَاستَعمِلُهُم اختِباراً ، ولا تُوَلِّهِم اُمورَكَ مُحاباةً ۳۱ وأثَرَةً ۳۲ ؛ فَإِنَّ المُحاباةَ وَالأَثَرَةَ جِماعُ الجَورِ وَالخِيانَةِ ، «وإدخالُ الضَّرورَةِ عَلَى النّاسِ ، ولَيسَت تَصلُحُ الاُمورُ بِالإِدغالِ ، فَاصطَفِ لِوِلايَةِ أعمالِكَ أهلَ الوَرَعِ وَالعِلمِ وَالسِّياسَةِ» ، وتَوَخَّ مِنهُم أهلَ التَّجرِبَةِ وَالحَياءِ مِن أهلِ البُيوتاتِ الصّالِحَةِ وَالقَدَمِ فِي الإِسلامِ ؛ فَإِنَّهُم أكرَمُ أخلاقاً ، وأصَحُّ أعراضاً وأقَلُّ فِي المَطامِعِ إشرافاً ، وأبلَغُ في عَواقِبِ الاُمورِ نَظَراً مِن غَيرِهِم ، «فَليَكونوا أعوانَكَ عَلى ما تَقَلَّدتَ» .
ثُمَّ أسبِغ عَلَيهِم «فِي العِمالاتِ ، ووَسِّع عَلَيهِم فِي» الأَرزاقِ ؛ فَإِنَّ في ذلِكَ قُوَّةً لَهُم عَلَى استِصلاحِ أنفُسِهِم ، وغِنىً عَن تَناوُلِ ما تَحتَ أيديهِم ، وحُجَّةً عَلَيهِم إن خالَفوا أمرَكَ ، أو ثَلَموا أمانَتَكَ . ثُمَّ تَفَقَّد أعمالَهُم ، وَابعَثِ العُيونَ عَليَهِم مِن أهلِ الصِّدقِ وَالوَفاءِ ؛ فَإِنَّ تَعَهُّدَكَ فِي السِّرِّ اُمورَهُم حَدوَةٌ لَهُم عَلَى استِعمالِ الأَمانَةِ وَالرِّفقِ بِالرَّعِيَّةِ .
وتَحَفَّظ مِنَ الأَعوانِ ؛ فَإِن أحَدٌ مِنهُم بَسَطَ يَدَهُ إلى خِيانَةٍ اجتَمَعَت بِها أخبارُ عُيونِكَ اكتَفَيتَ بِذلِكَ شاهِداً ، فَبَسَطتَ عَلَيهِ العُقوبَةَ في بَدَنِهِ ، وأخَذتَهُ بِما أصابَ مِن عَمَلِهِ ، ثُمَّ نَصَبتَهُ بِمَقامِ المَذَلَّةِ فَوَسَمتَهُ بِالخِيانَةِ ، وقَلَّدتَهُ عارَ التُّهَمَةِ .
وتَفَقَّد ما يُصلِحُ أهلَ الخَراجِ ؛ فَإِنَّ في صَلاحِهِ وصَلاحِهِم صَلاحاً لِمَن سِواهُم ، ولا صَلاحَ لِمَن سِواهُم إلّا بِهِم ؛ لِأَنَّ النّاسَ كُلَّهُم عِيالٌ عَلَى الخَراجِ وأهلِهِ . فَليَكُن نَظَرُكَ في عِمارَةِ الأَرضِ أبلَغَ مِن نَظَرِكَ فِي استِجلابِ الخَراجِ؛ فَإِنَّ الجَلبَ لا يُدرَكُ إلّا بِالعِمارَةِ ، ومَن طَلَبَ الخَراجَ بِغَيرِ عِمارَةٍ أخرَبَ البِلادَ ، وأهلَكَ العِبادَ ، ولَم يَستَقِم لَهُ أمرُهُ إلّا قَليلاً .
«فَاجمَع إلَيكَ أهلَ الخَراجِ مِن كُلِّ بُلدانِكَ ، ومُرهُم فَليُعلِموكَ حالَ بِلادِهِم وما فيهِ صَلاحُهُم ورَخاءَ جِبايَتِهِم ، ثُمَّ سَل عَمّا يَرفَعُ إلَيكَ أهلُ العِلمِ بِهِ مِن غَيرِهِم» ؛ فَإِن كانوا شَكَوا ثِقَلاً أو عِلَّةً مِنِ انقِطاعِ شِربٍ أو إحالَةِ أرضٍ اغتَمَرَها غَرَقٌ أو أجحَفَ بِهِمُ العَطَشُ أو آفَةً خَفَّفتَ عَنهُم ما تَرجو أن يُصلِحَ اللّهُ بِهِ أمرَهُم ، «وإن سَأَلوا مَعونَةً عَلى إصلاحِ ما يَقدِرونَ عَلَيهِ بأموالِهِم فَاكفِهِم مَؤونَتَهُ ؛ فَإِنَّ في عاقِبَةِ كِفايَتِكَ إيّاهُم صَلاحاً ، فَلا يَثقُلَنَّ عَلَيكَ شَيءٌ خَفَّفتَ بِهِ عَنهُمُ المَؤوناتِ» ؛ فَإِنَّهُ ذُخرٌ يَعودونَ بِهِ عَلَيكَ لِعِمارَةِ بِلادِكَ ، وتَزيينِ وِلايَتِكَ ، «مَعَ اقتِنائِكَ مَوَدَّتَهُم وحُسنَ نِيّاتِهِم ، وَاستِفاضَةِ الخَيرِ ، وما يُسَهِّلُ اللّهُ بِهِ مِن جَلبِهِم ، فَإِنَّ الخَراجَ لا يُستَخرَجُ بِالكَدِّ والإتعابِ ، مَعَ أنَّها عُقَدٌ ۳۳ تَعتَمِدُ عَلَيها إن حَدَثَ حَدَثٌ كُنتَ عَلَيهِم مُعتَمِداً» ؛ لِفَضلِ قُوَّتِهِم بِما ذَخَرتَ عَنهُم مِنَ الجَمامِ ۳۴ ، وَالثِّقَةِ مِنهُم بِما عَوَّدتَهُم مِن عَدلِكَ ورِفقِكَ ، ومَعرِفَتِهِم بِعُذرِكَ فيما حَدَثَ مِنَ الأَمرِ الَّذِي اتَّكَلتَ بِهِ عَلَيهِم ، فَاحتَمَلوهُ بِطيبِ أنفُسِهِم ، فَإِنَّ العُمرانَ مُحتَمِلٌ ما حَمَّلتَهُ ، وإنَّما يُؤتى خَرابُ الأَرضِ لِاءِعوازِ أهلِها ، وإنَّما يُعوِزُ أهلُها لِاءِسرافِ الوُلاةِ وسوءِ ظَنِّهِم بِالبَقاءِ وقِلَّةِ انتِفاعِهِم بِالعِبَرِ .
«فَاعمَل فيما وُلّيتَ عَمَلَ مَن يُحِبُّ أن يَدَّخِرَ حُسنَ الثَّناءِ مِنَ الرَّعِيَّةِ ، وَالمَثوبَةِ مِنَ اللّهِ ، وَالرِّضا مِنَ الإِمامِ . ولا قُوَّةَ إلّا بِاللّهِ» .
ثُمَّ انظُر في حالِ كُتّابِكَ «فَاعرِف حالَ كُلِّ امرِئٍ مِنهُم فيما يَحتاجُ إلَيهِ مِنهُم ، فَاجعَل لَهُم مَنازِلَ ورُتَباً» ، فَوَلِّ عَلى اُمورِكَ خَيرَهُم ، وَاخصُص رَسائِلَكَ الَّتي تُدخِلُ فيها مَكيدَتَكَ وأسرارَكَ بِأَجمَعِهِم لِوُجوهِ صالِحِ الأَدَبِ ، «مِمَّن يَصلُحُ لِلمُناظَرَةِ في جَلائِلِ الاُمورِ ، مِن ذَويِ الرَّأيِ وَالنَّصيحَةِ وَالذِّهنِ ، أطواهُم عَنكَ لِمَكنونِ الأَسرارِ كَشحاً» ، مِمَّن لا تُبطِرُهُ الكَرامَةُ ، «ولا تَمحَقُ بِهِ الدّالَّةُ ۳۵ » فَيَجتَرِئَ بِها عَلَيكَ في خَلاءٍ ، أو يَلتَمِسَ إظهارَها في مَلاءٍ ، ولا تقصُرُ بِهِ الغَفلَةُ عَن إيرادِ كُتُبِ الأَطرافِ عَلَيكَ ، وإصدارِ جَواباتِكَ عَلَى الصَّواب عَنكَ ، وفيما يَأخُذُ ويُعطي مِنكَ ، ولا يُضعِفُ عَقداً اعتَقَدَهُ لَكَ ، ولا يَعجِزُ عَن إطلاقِ ما عُقِدَ عَلَيكَ ، ولا يَجهَلُ مَبلَغَ قَدرِ نَفسِهِ فِي الاُمورِ ؛ فَإِنَّ الجاهِلَ بِقَدرِ نَفسِهِ يَكونُ بِقَدرِ غَيرِهِ أجهَلَ .
«ووَلِّ ما دونَ ذلِكَ مِن رَسائِلِكَ وجَماعاتِ كُتُبِ خَرجِكَ ودَواوينِ جُنودِكَ قَوماً تَجتَهِدُ نَفسَكَ فِي اختِيارِهِم ؛ فَإِنَّها رُؤوسُ أمرِكَ ، أجمَعُها لِنَفعِكَ ، وأعَمُّها لِنَفعِ رَعِيَّتِكَ» .
ثُمَّ لا يَكُنِ اختِيارُكَ إيّاهُم عَلى فِراسَتِكَ وَاستِنامَتِكَ ۳۶ وحُسنِ الظَّنِّ بِهِم ، فَإِنَّ الرِّجالَ يَعرِفونَ فِراساتِ الوُلاةِ بِتَصَنُّعِهِم وخِدمَتِهِم ولَيسَ وَراءَ ذلِكَ مِنَ النَّصيحَةِ وَالأَمانَةِ ، ولكِنِ اختَبِرهُم بِما وُلّوا لِلصّالِحينَ قَبلَكَ ، فَاعمِد لِأَحسَنِهِم كانَ فِي العامَّةِ أثَراً وأعرَفِهِم فيها بِالنَّبلِ وَالأَمانَةِ ، فَإِنَّ ذلِكَ دَليلٌ عَلى نَصيحَتِكَ للّهِِ ولِمَن وُلّيتَ أمرَهُ . «ثُمَّ مُرهُم بِحُسنِ الوِلايَةِ ، ولينِ الكَلِمَةِ» . وَاجعَل لِرَأسِ كُلِّ أمرٍ مِن اُمورِك رَأساً مِنهُم ، لا يَقهَرُهُ كَبيرُها ، ولا يَتَشَتَّتُ عَلَيهِ كَثيرُها .
«ثُمَّ تَفَقَّد ما غابَ عَنكَ مِن حالاتِهِم ، واُمورِ مَن يَرِدُ عَلَيكَ رُسُلُهُ ، وذَوِي الحاجَةِ وكَيفِ وِلايَتِهِم وقَبولِهِم وَلِيَّهُم وحُجَّتَهُم ؛ فَإِنَّ التَّبَرُّمَ وَالعِزَّ وَالنَّخوَةَ مِن كَثيرٍ مِنَ الكُتّابِ إلّا مَن عَصَمَ اللّهُ ، ولَيسَ لِلنّاسِ بُدٌّ مِن طَلَبِ حاجاتِهِم» . ومَهما كانَ في كُتّابِكَ مِن عَيبٍ فَتَغابَيتَ عَنهُ اُلزِمتَهُ ، أو فَضلٍ نُسِبَ إلَيكَ ، مَعَ مالَكَ عِندَ اللّهِ في ذلِكَ مِن حُسنِ الثَّوابِ .
ثُمَّ التُّجّارُوذَوِي الصِّناعاتِ فَاستَوصِ وأوصِ بِهِم خَيراً ؛ المُقيمِ مِنهُم ، وَالمُضطَرِبِ ۳۷ بِمالِهِ ، وَالمُتَرَفِّقِ بِيَدِهِ ؛ فَإِنَّهُم مَوادٌّ لِلمَنافِعِ ، وجُلّابُها فِي البِلادِ في بَرِّكَ وبَحرِكَ وسَهلِكَ وجَبَلِكَ ، وحَيثُ لا يَلتَئِمُ النّاسُ لِمَواضِعِها ولا يَجتَرِئونَ عَلَيها «مِن بِلادِ أعدائِكَ مِن أهلِ الصِّناعاتِ الَّتي أجرَى اللّهُ الرِّفقَ مِنها عَلى أيديهِم فَاحفَظ حُرمَتَهُم ، وآمِن سُبُلَهُم ، وخُذ لَهُم بِحُقوقِهِم» ؛ فَإِنَّهُم سِلمٌ لا تُخافُ بائِقَتُهُ ، وصُلحٌ لا تُحذَرُ غائِلَتُهُ ، «أحبُّ الاُمورِ إلَيهِم أجمَعُها لِلأَمنِ وأجمَعُها لِلسُّلطانِ» ، فَتَفَقَّد اُمورَهُم بِحَضرَتِكَ ، وفي حَواشي بِلادِكَ .
وَاعلَم مَعَ ذلِكَ أنَّ في كَثيرٍ مِنهُم ضيقاً فاحِشاً ، وشُحّاً قَبيحاً ، وَاحتِكاراً لِلمَنافِعِ ، وتَحَكُّماً فِي البِياعاتِ ، وذلِكَ بابُ مَضَرَّةٍ لِلعامَّةِ ، وعَيبٌ عَلَى الوُلاةِ ؛ فَامنَع الاِحتِكارَ فَإِنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله نَهى عَنهُ .
وَليَكُنِ البَيعُ وَالشِّراءُ بَيعاً سَمِحاً ، بِمَوازينِ عَدلٍ ، وأسعارٍ لا تُجحِفُ بِالفَريقَينِ مِنَ البائِعِ وَالمُبتاعِ ، فَمَن قارَفَ حُكرَةً بَعدَ نَهيِكَ فَنَكِّل وعاقِب في غَيرِ إسرافٍ ؛ «فَإِنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَعَلَ ذلِكَ» .
ثُمَّ اللّهَ اللّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفلى مِنَ الَّذينَ لا حيلَةَ لَهُم ، وَالمَساكينِ ، وَالمُحتاجينَ ، وذَوِي البُؤسِ ، وَالزَّمنى ۳۸ ؛ فَإِنَّ في هذِهِ الطَّبَقَةِ قانِعاً ومُعتَرّاً ، فَاحفَظِ اللّهَ مَا استَحفَظَكَ مِن حَقِّهِ فيها ، وَاجعَل لَهُم قِسماً مِن غَلّاتِ صَوافِي الإِسلامِ في كُلِّ بَلَدٍ ، فَإِنَّ لِلأَقصى مِنهُم مِثلَ الَّذي لِلأَدنى ، وكُلّاً قَدِ استُرعيتَ حَقَّهُ ، فَلا يَشغَلَنَّكَ عَنهُم نَظَرٌ ؛ فَإِنَّكَ لا تُعذَرُ بِتَضييعِ الصَّغيرِ لِاءِحكامِكَ الكَثيرَ المُهِمِّ ، فَلا تُشخِص هَمَّكَ عَنهُم ، ولا تُصَعِّر خَدَّكَ لَهُم ، «وتَواضَع للّهِِ يَرفَعكَ اللّهُ ، وَاخفَض جَناحَكَ لِلضُّعَفاءِ ، وَاربِهِم إلى ذلِكَ مِنكَ حاجَةً» ، وتَفَقَّدَ مِن اُمورِهُم ما لا يَصِلُ إلَيكَ مِنهُم مِمَّن تَقتَحِمُهُ العُيونُ وتَحقِرُهُ الرِّجالُ ، فَفَرِّغ لِاُولئِكَ ثِقَتَكَ مِن أهلِ الخَشيَةِ وَالتَّواضُعِ فَليَرفَع إلَيكَ اُمورَهُم ، ثُمَّ اعمَل فيهِم بِالإِعذارِ إلَى اللّهِ يَومَ تَلقاهُ ، فَإِنَّ هؤُلاءِ أحوَجُ إلَى الإِنصافِ مِن غَيرِهِم ، وكُلٌّ فَأَعذِر إلَى اللّهِ في تَأدِيَةِ حَقِّهِ إلَيهِ .
وتَعَهَّد أهلَ اليُتمِ وَالزَّمانَةِ وَالرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّن لا حيلةَ لَهُ ، ولا يَنصِبُ لِلمَسأَلَةِ نَفسَهُ ؛ «فَأَجرِ لَهُم أرزاقاً ، فَإِنَّهُم عِبادُ اللّهِ ، فَتَقَرَّب إلَى اللّهِ بِتَخَلُّصِهِم ووَضعِهِم مَواضِعَهُم في أقواتِهِم وحُقوقِهِم ، فَإِنَّ الأَعمالَ تَخلُصُ بِصِدقِ النِّيّاتِ . ثُمَّ إنَّهُ لا تَسكُنُ نُفوسُ النّاسِ أو بَعضِهِم إلى أنَّكَ قَد قَضَيتَ حُقوقَهُم بِظَهرِ الغَيبِ دونَ مُشافَهَتِكَ بِالحاجاتِ» ، وذلِكَ عَلَى الوُلاةِ ثَقيلٌ ، وَالحَقُّ كُلُّهُ ثَقيلٌ ، وقَد يُخَفِّفُهُ اللّهُ عَلى أقوامٍ طَلَبُوا العاقِبَةَ فَصَبَّروا نُفوسَهُم ، ووَثِقوا بِصِدقِ مَوعودِ اللّهِ «لَمَن صَبَرَ وَاحتَسَبَ ، فَكُن مِنهُم وَاستَعِن بِاللّهِ» .
وَاجعَل لِذَوِي الحاجاتِ مِنكَ قِسماً تُفَرِّغُ لَهُم فيهِ شَخصَكَ «وذِهنَكَ مِن كُلِّ شُغُلٍ ، ثُمَّ تَأذَنُ لَهُم عَلَيكَ» ، وتَجلِسُ لَهُم مَجلِساً تَتَواضَعُ فيهِ للّهِِ الَّذي رَفَعَكَ ، وتُقعِدُ عَنهُم جُندَكَ وأعوانَكَ مِن أحراسِكَ وشُرَطِكَ ، «تَخفِضُ لَهُم في مَجلِسِكَ ذلِكَ جَناحَكَ ، وتُلينُ لَهُم كَنَفَكَ في مُراجَعَتِكَ ووَجهِكَ» ؛ حَتّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُم غَيرَ مُتَعتَعٍ ، فَإِنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ في غَيرِ مَوطنٍ : لَن تُقَدَّسَ اُمَّةٌ لا يُؤخَذُ لِلضَّعيفِ فيها حَقُّهُ مِنَ القَوِيِّ غَيرَ مُتَعتَعٍ .
ثُمَّ احتَمِلِ الخُرقَ مِنهُم وَالعِيَّ ، ونَحِّ عَنكَ الضّيقَ وَالأَنفَ يَبسُطِ اللّهُ عَلَيكَ أكنافَ رَحمَتِهِ ، ويوجِب لَكَ ثَوابَ أهلِ طاعَتِهِ ، فَأَعطِ ما أعطَيتَ هَنيئاً ، وَامنَع في إجمالٍ وإعذارٍ ، «وتَواضَع هُناك ؛ فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَواضِعينَ . وَليَكُن أكرَمَ أعوانِكَ عَلَيكَ أليَنُهُم جانِباً ، وأحسَنُهُم مُراجَعَةً ، وألطَفُهُم بِالضُّعَفاءِ ، إن شاءَ اللّهُ» .
ثُمَّ إنَّ اُموراً مِن اُمورِكَ لابُدَّ لَكَ مِن مُباشَرَتِها ؛ مِنها : إجابَةُ عُمّالِكَ ما يَعيى عَنهُ كُتّابُكَ . ومِنها : إصدارُ حاجاتِ النّاسِ في قِصَصِهِم . «ومِنها : مَعرِفَةُ ما يَصِلُ إلَى الكُتّابِ وَالخُزّانِ مِمّا تَحتَ أيديهِم ، فَلا تَتَوانَ فيما هُنالِكَ ، ولا تَغتَنِم تَأخيرَهُ ، وَاجعَل لِكُلِّ أمرٍ مِنها مَن يُناظِرُ فيهِ وُلاتَهُ بِتَفريغٍ لِقَلبِكَ وهَمِّكَ ، فَكُلَّما أمضَيتَ أمراً فَأَمضِهِ بَعدَ التَّروِيَةِ ومُراجَعَةِ نَفسِكَ ، ومُشاوَرَةِ وَلِيِّ ذلِكَ بِغَيرِ احتِشامٍ ، ولا رَأيَ يَكسِبُ بِهِ عَلَيكَ نَقيضُهُ» .
ثُمَّ أمضِ لِكُلِّ يَومٍ عَمَلَهُ ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ يَومٍ ما فيهِ . وَاجعَل لِنَفسِكَ فيما بَينَكَ وبَينَ اللّهِ أفضَلَ تِلكَ المَواقيتِ ، وأجزَلَ تِلكَ الأَقسامِ ، وإن كانَت كُلُّها للّهِِ إذا صَحَّت فيهَا النِّيَّةُ وسَلِمَت مِنهَا الرَّعِيَّةُ .
وَليَكُن في خاصِّ ما تُخلِصُ للّهِِ بِهِ دينَكَ إقامَةُ فَرائِضِهِ الَّتي هِيَ لَهُ خاصَّةً، فَأَعطِ اللّهَ مِن بَدَنِكَ في لَيلِكَ ونَهارِكَ ما يَجِبُ ؛ «فَإِنَّ اللّهَ جَعَلَ النّافِلَةَ لِنَبِيِّهِ خاصَّةً دونَ خَلقِهِ فَقالَ : «وَ مِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا» ۳۹ ، فَذلِكَ أمرٌ اختَصَّ اللّهُ بِهِ نَبِيَّهُ وأكرَمَهُ بِهِ ، لَيسَ لِأَحَدٍ سِواهُ ، وهُوَ لِمَن سِواهُ تَطَوَّعٌ ؛ فَإِنَّهُ يَقولُ : «وَ مَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ» ۴۰ » ، فَوَفِّر ما تَقَرَّبتَ بِهِ إلَى اللّهِ وكَرِّمهُ وأدِّ فَرائِضَهُ إلَى اللّهِ كامِلاً غَيرَ مَثلوبٍ ولا مَنقوصٍ ، بالِغاً ذلِكَ مِن بَدَنِكَ ما بَلَغَ .
فَإِذا قُمتَ في صَلاتِكَ بِالنّاسِ فَلا تُطوِّلَنَّ ولا تَكونَنَّ مُنَفِّراً ولا مُضَيِّعاً ؛ فَإِنَّ في النّاسِ مَن بِهِ العِلَّةُ ولَهُ الحاجَةُ ، وقَدَسأَلتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله حينَ وَجَّهَني إلَى اليَمَنِ : كَيفَ نُصَلّي بِهِم ؟ فَقالَ : صَلَّ بِهِم كَصَلاةِ أضعَفِهِم وكُن بِالمُؤمِنينَ رَحيماً .
وبَعدَ هذا فَلا تُطَوَلَنَّ احتِجابَكَ عَن رَعِيَّتِكَ ؛ فَإِنَّ احتِجابَ الوُلاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعبَةٌ مِنَ الضّيقِ ، وقِلَّةُ عِلمٍ بِالاُمورِ ، والاِحتِجابُ يَقطَعُ عَنهُم عِلمَ ما احتَجَبوا دونَهُ ، فَيَصغُرُ عِندَهُم الكَبيرُ ، ويَعظُمُ الصَّغيرُ ، ويَقبُحُ الحَسَنُ ، ويَحسُنُ القَبيحُ ، ويُشابُ الحَقُّ بِالباطِلِ ، وإنَّمَا الوالي بَشَرٌ لا يَعرِفُ ما تَوارى عَنهُ النّاسُ بِهِ مِنَ الاُمورِ ، ولَيسَت عَلَى القَولِ سِماتٌ يُعرَفُ بِهَا الصِّدقُ مِنَ الكَذِبِ ، فَتُحَصِّنَ مِنَ الإِدخالِ فِي الحُقوقِ بِلينِ الحِجابِ ؛ فَإِنَّما أنتَ أحَدُ رَجُلَينِ : إمَّا امرُءٌ سَخَت نَفسُكَ بِالبَذلِ فِي الحَقِّ فَفيمَ احتِجابُكَ مِن واجِبِ حَقُّ تُعطيهِ ، أو خُلقٍ كَريمٍ تُسديهِ ؟ وإمّا مُبتَلًى بِالمَنعِ فَما أسرَعَ كَفَّ النّاسِ عَن مَسأَلَتِكَ إذا أيِسوا مِن بَذلِكَ ، مَعَ أنَّ أكثَرَ حاجاتِ النّاسِ إلَيكَ مالا مَؤونَةَ عَلَيكَ فيهِ؛ مِن شِكايَةِ مَظلِمَةٍ، أو طَلَبِ إنصافٍ . «فَانتَفِع بِما وَصَفتُ لَكَ ، وَاقتَصِر فيهِ عَلى حَظِّكَ ورُشدِكَ ، إن شاءَ اللّهُ» .
ثُمَّ إنَّ لِلمُلوكِ خاصَّةٌ وبِطانَةٌ فيهِمُ استِئثارٌ وتَطاوُلٌ ، وقِلَّةُ إنصافٍ ، فَاحسِم مادَّةَ اُولئِكَ بِقَطعِ أسبابِ تِلكَ الأَشياءِ ، ولا تُقطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِن حَشَمِكَ ولا حامَّتِكَ ۴۱ قَطيعَةً ، ولا تَعتَمِدَنَّ فِي اعتِقادِ عُقدَةٍ تَضُرُّ بِمَن يَليها مِنَ النّاسِ ؛ في شِربٍ ، أو عَمَلٍ مُشتَرَكٍ يَحمِلونَ مَؤونَتَهُم عَلى غَيرِهِم ، فَيَكونَ مَهنَأً ذلِكَ لَهُم دونَكَ ، وعَيبُهُ عَلَيكَ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ .
«عَلَيكَ بِالعَدلِ في حُكمِكَ إذَا انتَهَتِ الاُمورُ إلَيكَ» ، وألزِمِ الحَقَّ مَن لَزِمَهُ مِنَ القَريبِ وَالبَعيدِ ، وكُن في ذلِكَ صابِراً مُحتَسِباً ، وَافعَل ذلِكَ بِقَرابَتِكَ حَيثُ وَقَعَ ، وَابتَغِ عاقِبَتَهُ بِما يَثقُلُ عَلَيهِ مِنهُ ؛ فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذلِكَ مَحمودَةٌ . وإن ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيفاً فَأَصحِر ۴۲ لَهُم بِعُذرِكَ ، وَاعدِل عَنكَ ظُنونَهُم بِإِصحارِكَ ؛ فَإِنَّ في تِلكَ رِياضَةً مِنكَ لِنَفسِكَ ، ورِفقاً مِنكَ بِرَعِيَّتِكَ ، وإعذاراً تَبلُغُ فيهِ حاجَتَكَ مِن تَقويمِهِم عَلَى الحَقِّ في خَفضٍ وإجمالٍ .
لا تَدفَعَنَّ صُلحاً دَعاكَ إلَيهِ عَدُوُّكَ فيهِ رِضًى ؛ فَإِنَّ فِي الصُّلحِ دَعَةً ۴۳ لِجُنودِكَ ، وراحَةً مِن هُمومِكَ ، وأمناً لِبِلادِكَ . ولكِنَّ الحَذَرَ كُلَّ الحَذَرِ مِن مُقارَبَةِ عَدُوِّكَ في طَلَبِ الصُّلحِ ؛ فَإِنَّ العَدُوَّ رُبَّما قارَبَ لِيَتَغَفَّلَ ، فَخُذ بِالحَزمِ ، «وتَحَصَّن كُلَّ مَخوفٍ تُؤتى مِنهُ ، وبِاللّهِ الثِّقَةُ في جَميعِ الاُمورِ» .
وإن لَجَّت بَينَكَ وبَينَ عَدُوِّكَ قَضِيَّةٌ عَقَدتَ لَهُ بِها صُلحاً أو ألبَستَهُ مِنكَ ذِمَّةً فَحُط عَهدَكَ بِالوَفاءِ ، وَارعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمانَةِ ، وَاجعَل نَفسَكَ جُنَّةً دونَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ شَيءٌ مِن فَرائِضِ اللّهِ جَلَّ وعَزَّ النّاسُ أشَدُّ عَلَيهِ اجتِماعاً في تَفريقِ أهوائِهِم وتَشتيتِ أديانِهِم مِن تَعظيمِ الوَفاءِ بِالعُهودِ ، وقَد لَزِمَ ذلِكَ المُشرِكونَ فيما بَينَهُم دونَ المُسلِمينَ لِمَا استَوبَلوا ۴۴ مِنَ الغَدرِ والخَترِ ، فَلا تَغدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ ، ولا تُخفِر ۴۵ بِعَهدِكَ ، ولا تَختِلَنَّ ۴۶ عَدُوِّكَ ، فَإِنَّهُ لا يَجتَرِئُ عَلَى اللّهِ إلّا جاهِلٌ ، وقَد جَعَلَ اللّهُ عَهدَهُ وذِمَّتَهُ أمناً أفضاهُ بَينَ العِبادِ بِرَحمَتِهِ ، وحَريماً يَسكُنونَ إلى مَنَعَتِهِ ، ويَستَفيضونَ بِهِ إلى جِوارِهِ ، فَلا خِداعَ ولا مُدالَسَةَ ولا إدغالَ فيهِ ۴۷ . فَلا يَدعُوَنَّكَ ضيقُ أمرٍ لَزِمَكَ فيهِ عَهدُ اللّهِ عَلى طَلَبِ انفِساخِهِ ، فَإِنَّ صَبرَكَ عَلى ضيقٍ تَرجُو انفِراجَهُ وفَضلَ عاقِبَتِهِ خَيرٌ مِن غَدرٍ تَخافُ تَبِعَتَهُ ، وأن تُحيطَ بِكَ مِنَ اللّهِ طِلبَةً ، ولا تَستَقيلُ فيها دُنياكَ ولا آخِرَتَكَ .
وإيّاكَ وَالدِّماءَ وسَفكَها بِغَيرِ حِلِّها ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ شَيءٌ أدعى لِنِقمَةٍ ولا أعظَمَ لِتَبِعَةٍ ولا أحرى لِزَوالِ نِعمَةٍ وَانقِطاعِ مُدَّةٍ مِن سَفكِ الدِّماءِ بِغَيرِ الحَقِّ ، وَاللّهُ مُبتَدِئٌ بِالحُكمِ بَينَ العِبادِ فيما يَتَسافَكونَ مِنَ الدِّماءِ ، فَلا تَصونَنَّ سُلطانَكَ بِسَفكِ دَمٍ حَرامٍ ، فَإِنَّ ذلِكَ يُخلِقُهُ ۴۸ ويُزيلُهُ ، «فَإِيّاكَ وَالتَّعَرُّضَ لِسَخَطِ اللّهِ ؛ فَإِنَّ اللّهَ قَد جَعَلَ لِوَلِيِّ مَن قُتِلَ مَظلوماً سُلطاناً ، قالَ اللّهُ : «وَ مَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـنًا فَلَا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا» ۴۹ » .
ولا عُذرَ لَكَ عِندَ اللّهِ ولا عِندي في قَتلِ العَمدِ ، لِأَنَّ فيهِ قَوَدَ البَدَنِ ، فَإِنِ ابتَلَيتَ بِخَطَاًءوأفرَطَ عَلَيهِ سَوطُكَ أو يَدُكَ لِعُقوبَةٍ فَإِنَّ فِي الوَكزَةِ فَما فَوقَها مَقتَلَةً ، فَلا تَطمَحَنَّ ۵۰ بِكَ نَخوَةُ ۵۱ سُلطانِكَ عَن أن تُؤَدِّيَ إلى أهلِ المَقتولِ حَقَّهُم ؛ «دِيَّةً مُسَلَّمَةً يُتَقَرَّبُ بِها إلَى اللّهِ زُلفى» .
إيّاكَ وَالإِعجابَ بِنَفسِكَ ، وَالثِّقَةَ بِما يُعجِبُكَ مِنها ، وحُبَّ الإِطراءِ ؛ فَإِنَّ ذلِكَ مِن أوثَقِ فُرصِ الشَّيطانِ في نَفسِهِ لِيَمحَقَ ما يَكونُ مِن إحسانِ المُحسِنِ .
إيّاكَ وَالمَنَّ عَلى رَعِيَّتِكَ بِإِحسانٍ ، أوِ التَّزَيُّدَ فيما كانَ مِن فِعلِكَ ، أو تَعِدَهُم فَتُتبِعَ مَوعِدَكَ بِخُلفِكَ ، «أوِ التَّسَرُّعَ إلَى الرَّعِيَّةِ بِلِسانِكَ» ؛ فَإِنَّ المَنَّ يُبطِلُ الإِحسانَ ، وَالخُلفَ يُوجِبُ المَقتَ ، وقَد قالَ اللّهُ جَلَّ ثَناؤُهُ : «كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ» ۵۲ .
إيّاكَ وَالعَجَلَةَ بِالاُمورِ قَبلَ أوانِها ، وَالتَّساقُطَ فيها عِندَ زَمانِها ، وَاللَّجاجَةَ فيها إذا تَنَكَّرَت ، وَالوَهنَ فيها إذا أوضَحَت ، فَضَع كُلَّ أمرٍ مَوضِعَهُ ، وأوقِع كُلَّ عَمَلٍ مَوقِعَهُ .
وإيّاكَ والاِستِئثارَ بِما لِلنّاسِ فيهِ الاُسوَةُ ۵۳ ، «والاِعتِراضَ فيما يَعنيكَ» ، وَالتَّغابي عَمّا يَعنى بِهِ مِمّا قَد وَضَحَ لِعُيونِ النّاظِرينَ ؛ فَإِنَّهُ مَأخوذٌ مِنكَ لِغَيرِكَ . وعَمّا قَليلٍ تُكشَفُ عَنكَ أغطِيَةُ الاُمورِ ، ويُبرِزُ الجَبّارُ بِعَظَمَتِهِ ، فَيُنتَصَفُ المَظلومونَ مِنَ الظّالِمينَ .
ثُمَّ املِك حَمِيَّةَ أنفِكَ ، وسَورَةَ ۵۴ حِدَّتِكَ ۵۵ ، وسَطوَةَ يَدِكَ ، وغَربَ لِسانِكَ . وَاحتَرِس كُلَّ ذلِكَ بِكَفِّ البادِرَةِ ، وتَأخيرِ السَّطوَةِ . وَارفَع بَصَرَكَ إلَى السَّماءِ عِندَما يَحضُرُكَ مِنهُ ، حَتّى يَسكُنَ غَضَبُكَ ، فَتَملِكَ الاِختِيارَ ، ولَن تَحكُمَ ذلِكَ مِن نَفسِكَ حَتّى تُكثِرَ هُمومَكَ بِذِكرِ المَعادِ .
«ثُمَّ اعلَم أنَّهُ قَد جُمِعَ ما في هذَا العَهدِ مِن صُنوفِ ما لم آلُكَ فيهِ رُشداً إن أحَبَّ اللّهُ إرشادَكَ وتَوفيقَكَ أن تَتَذَكَّرَ ما كانَ مِن كُلِّ ما شاهَدتَ مِنّا ، فَتَكونَ وِلايَتُكَ هذِهِ» مِن حُكومَةٍ عادِلَةٍ ، أو سُنَّةٍ فاضِلَةٍ ، أو أثَرٍ عَن نَبِيِّكَ صلى الله عليه و آله ، أو فَريضَةٍ في كِتابِ اللّهِ ، فَتَقتَدِيَ بِما شاهَدتَ مِمّا عَمِلنا بِهِ مِنها ، وتَجتَهِدَ نَفسَكَ فِي اتِّباعِ ما عَهِدتُ إلَيكَ في عَهدي ، وَاستَوثَقتُ مِنَ الحُجَّةِ لِنَفسي لِكَيلا تَكونَ لَكَ عِلَّةٌ عِندَ تَسَرُّعِ نَفسِكَ إلى هَواها . «فَلَيسَ يَعصِمُ مِنَ السّوءِ ولا يُوَفِّقُ لِلخَيرِ إلّا اللّهُ جَلَّ ثَناؤُهُ .
وقَد كانَ مِمّا عَهِدَ إلَيَّ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله في وِصايَتِهِ تَحضيضاً عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وما مَلَكَت أيمانُكُم ، فَبِذلِكَ أختِمُ لَكَ ما عَهِدتُ ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللّهِ العَلِيِّ العَظيمِ» .
وأنَا أسأَلُ اللّهَ سَعَةَ رَحمَتِهِ ، وعَظيمَ مَواهِبِهِ وقُدرَتِهِ عَلى إعطاءِ كُلِّ رَغبَةٍ أن يُوَفِّقَني وإيّاكَ لِما فيهِ رِضاهُ ؛ مِنَ الإِقامَةِ عَلَى العُذرِ الواضِحِ إلَيهِ وإلى خَلقِهِ ، مَعَ حُسنِ الثَّناءِ فِي العِبادِ ، وحُسنِ الأَثَرِ فِي البِلادِ ، وتَمامِ النِّعمَةِ ، وتَضعيفِ الكَرامَةِ ، وأن يَختِمَ لي ولَكَ بِالسَّعادَةِ وَالشَّهادَةِ ، وإنّا إلَيهِ راغِبونَ . وَالسَّلامُ عَلى رَسولِ اللّهِ وعَلى آلِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ ، وسَلَّمَ كَثيرا . ۵۶
1.جاء عهد الإمام عليه السلام إلى مالك الأشتر في نهج البلاغة و تحف العقول و دعائم الإسلام ـ تحت عنوان آخر ـ . وبما أنّ متن تحف العقول أتمّ وأكثر تناسقا فلذا رجّحناه على المصدرين آخرين ، وقد ميّزنا زيادته بوضع الأقواس « » .
2.كما في نهج البلاغة ، وفي المصدر : «تفرط» .
3.البَجَح : الفَرَح ، وتبجّح به : فخر ، وفلان يتبجّح : أي يفتخر ويباهي بشيء ما ، وقد بَجِح يَبجحَ (لسان العرب : ج ۲ ص ۴۰۵ و ۴۰۶ «بجح») .
4.البادِرَة : الحِدّة ، وهو ما يَبدر من حِدّةِ الرجل عند غضبه من قول أو فعل (لسان العرب : ج ۴ ص ۴۸ «بدر») .
5.لي عن هذا الأمر مَندوحة : أي مُتّسعٌ (لسان العرب : ج ۲ ص ۶۱۳ «ندح») .
6.أدغلَ في الأمر : أدخل فيه ما يُفسِده ويخالفه (لسان العرب : ج ۱۱ ص ۲۴۴ «دغل») .
7.النَّهك : التنقّص (لسان العرب : ج ۱۰ ص ۴۹۹ «نهك») .
8.طامَنَ ظهره : إذا حنى ظهره (لسان العرب : ج ۱۳ ص ۲۶۸ «طمن») والمراد يُخفض ويسكن .
9.الطِّماح : مثل الجِماحِ ، والطَّماح : الكبر والفخر (لسان العرب : ج ۲ ص ۵۳۴ «طمع») .
10.الغَرْب : الحِدّة (لسان العرب : ج ۱ ص ۶۴۱ «غرب») .
11.أعزب عنه حلمه وعزب : ذهب (لسان العرب : ج ۱ ص ۵۹۶ «عزب») .
12.الإلحاف : شدّة الإلحاح في المسألة (لسان العرب : ج ۹ ص ۳۱۴ «لحف») .
13.وَضَح الشيء يَضِحُ : بان (لسان العرب : ج ۲ ص ۶۳۴ «وضح») .
14.كذا في المصدر ، وفي نهج البلاغة : «فإنّ البخل والجبن» وهو الأنسب .
15.بِطانة الرجل : خاصّته ، وصاحبُ سِرِّه وداخِلة أمره الذي يشاوِره في أحواله (لسان العرب : ج ۱۳ ص ۵۵ «بطن») .
16.عُباب كلّ شيء : أوّله (لسان العرب : ج ۱ ص ۵۷۳ «عبب») .
17.الدَّغَل : الفساد (لسان العرب : ج ۱۱ ص ۲۴۴ «دغل») .
18.المُثافِن : المواظِب ، ويقال : ثافَنتُ فلاناً إذا حابَبته تحادِثُه وتلازِمه وتكَلّمه (لسان العرب : ج ۱۳ ص ۷۹ «ثفن») .
19.في المصدر : «طبقة» ، والصحيح ما أثبتناه كما في نهج البلاغة .
20.الرِّفد : العطاء والصِّلة (لسان العرب : ج ۳ ص ۱۸۱ «رفد») .
21.النَّبْو : العلوّ والارتفاع (لسان العرب : ج ۱۵ ص ۳۰۲ «نبا») أي يشتدّ ويعلو عليهم ليكفّ أيديهم عن الظلم .
22.أي لا تعد ما قوّيتم به عظيما (بحار الأنوار : ج ۳۳ ص ۶۰۴) .
23.الخوالف : الذين لا يغزون (لسان العرب : ج ۹ ص ۸۶ «خلف») .
24.العَين : الذي يُبعث ليتَجسّس الخبرَ (لسان العرب : ج ۱۳ ص ۳۰۱ «عين») .
25.يقال : خَلَفتُ الرجلَ في أهله : إذا أقمتَ بعده فيهم وقمتَ عنه بما كان يفعله (النهاية : ج ۲ ص ۶۶ «خلف») .
26.سلس المُهر : إذا انقاد (لسان العرب : ج ۶ ص ۱۰۶ «سلس») .
27.النساء : ۵۹ .
28.النساء : ۸۳ .
29.المَحْك : اللَّجاج (لسان العرب : ج ۱۰ ص ۴۸۶ «محك») .
30.صغا إليه يصغى : مال (لسان العرب : ج ۱۴ ص ۴۶۱ «صغا») .
31.الحِباء : ما يَحبو به الرجل صاحبه ويكرمه به (لسان العرب : ج ۱۴ ص ۱۶۲ «حبا») وحباه محاباة : اختصّه ومال إليه (تاج العروس : ج ۱۹ ص ۳۰۳ «حبو») .
32.استأثر فلانٌ بالشيء : أي استبدّ به ، والاسم الأَثَرَة (الصحاح : ج ۲ ص ۵۷۵ «أثر») .
33.العُقدة : كلّ شيء يستوثق الرجل به لنفسه ويعتمد عليه (لسان العرب : ج ۳ ص ۲۹۹ «عقد») .
34.الجَمام : الراحة (لسان العرب : ج ۱۲ ص ۱۰۵ «جمم») .
35.أدَلّ عليه : وثق بمحبّته فأفرط عليه ، والاسم الدالّة (لسان العرب : ج ۱۱ ص ۲۴۷ «دلل») .
36.استَنامَ إلى الشيء : استَأنَس به ، واستنامَ فلان إلى فلان : إذا أنِسَ به واطمأنّ إليه وسكنَ (لسان العرب : ج ۱۲ ص ۵۹۸ «نوم») .
37.المضطرب بماله : المتردّد به بين البلدان .
38.الزَّمنى : جمع زَمين . ورجلٌ زَمِنٌ وزمينٌ : أي مبتلىً بيّن الزّمانة ، والزمانة : العاهة (لسان العرب : ج ۱۳ ص ۱۹۹ «زمن») .
39.الإسراء : ۷۹ .
40.البقرة : ۱۵۸ .
41.حامّة الإنسان : خاصّته ومن يقرب منه (النهاية : ج ۱ ص ۴۴۶ «حمم») .
42.أصحرَ بالأمر وأصحرَه : أظهره (تاج العروس : ج ۷ ص ۷۹ «صحر») .
43.وَدُع الشيء : سكن واستقرّ وصار إلى الدعة (تاج العروس : ج ۱۱ ص ۴۹۸ «ودع») .
44.الوبال : الوخامة وسوء العاقبة (مجمع البحرين : ج ۳ ص ۱۹۰۱ «وبل») .
45.أخفَره : نقض عهده وخاس به وغدره (لسان العرب : ج ۴ ص ۲۵۳ «خفر») .
46.خَتَله : خدعه وراوغه (النهاية : ج ۲ ص ۹ «ختل») .
47.زاد في نهج البلاغة : «ولا تعقِد عقدا تجوّز فيه العلل ، ولا تعوِّلنّ على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة» .
48.خَلق الشيءُ وأخلَق : بَليَ ، يقال : ثوب خَلَق ، ودار خَلَق (لسان العرب : ج ۱۰ ص ۸۸ «خلق») .
49.الإسراء : ۳۳ .
50.طَمَحَ به : ذهب به (لسان العرب : ج ۲ ص ۵۳۵ «طمح») .
51.النَّخوة : العظمة والكِبر والفخر (لسان العرب : ج ۱۵ ص ۳۱۳ «نخا») .
52.الصفّ : ۳ .
53.القوم اُسوة في هذا الأمر : أي حالهم فيه واحدة (لسان العرب : ج ۱۴ ص ۳۵ «أسا») .
54.سَورَة السلطان : سطوته واعتداؤه . والسَّورَة : الوَثبة (لسان العرب : ج ۴ ص ۳۸۵ «سور») .
55.الحِدّة : ما يعتري الإنسان من النزق والغضب (لسان العرب : ج ۳ ص ۱۴۱ «حدد») .
56.تحف العقول : ص ۱۲۶ ، نهج البلاغة : الكتاب ۵۳ ، دعائم الإسلام : ج ۱ ص ۳۵۰ وذكر أنّ هذا العهد هو ممّا عهد به النبيّ صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام وكلاهما نحوه ، بحار الأنوار : ج ۷۷ ص ۲۴۰ ح ۱ .