وقَلَّ صِبغٌ إلّا وقَد أخَذَ مِنهُ بِقِسطٍ ، وعَلاهُ بِكَثرَةِ صِقالِهِ وبَريقِهِ وبَصيصِ ديباجِهِ ورَونَقِهِ ، فَهُوَ كَالأَزاهيرِ المَبثوثَةِ لَم تُرَبِّها أمطارُ رَبيعٍ ولا شُموسُ قَيظٍ . وقَد يَنحَسِرُ مِن ريشِهِ ، ويَعرى مِن لباسِهِ ، فَيَسقُطُ تَترى ، ويَنبُتُ تِباعاً ، فَيَنحَتُّ مِن قَصَبِهِ انحِتاتَ أوراقِ الأَغصانِ ، ثُمَّ يَتَلاحَقُ نامِياً حَتى يَعودَ كَهَيئَتِهِ قَبلَ سُقوطِهِ ، لا يُخالِفُ سالِفَ ألوانِهِ ، ولا يَقَعُ لَونٌ في غَيرِ مَكانِهِ ! وإذا تَصَفَّحتَ شَعرَةً مِن شَعَراتِ قَصَبِهِ أرَتكَ حُمرَةً وَردِيَّةً ، وتارَةً خُضرَةً زَبرجَدِيَّةً ، وأحياناً صُفرَةً عَسجَدِيَّةً ۱ . فَكَيفَ تَصِلُ إلى صِفَةِ هذا عَمائِقُ الفِطَنِ ، أو تَبلُغُهُ قَرائِحُ العُقولِ ، أو تَستَنظِمُ وَصفَهُ أقوالُ الواصِفينَ ؟ ! وأقَلُّ أجزائِهِ قَد أعجَزَ الأَوهامَ أن تُدرِكَهُ ، وَالأَلسِنَةَ أن تَصِفَهُ ! فَسُبحانَ الَّذي بَهَرَ العُقولَ عَن وَصفِ خَلقٍ جَلّاهُ لِلعُيونِ فَأَدرَكَته مَحدوداً مُكَوَّناً ، ومُؤَلَّفاً مُلَوَّناً ، وأعجَزَ الأَلسُنَ عَن تَلخيصِ صِفَتِهِ ، وقَعَدَ بِها عَن تَأدِيَةِ نَعتِهِ ! ۲
۵ / ۳
الجَرادَة
۵۳۸۳.الإمام عليّ عليه السلام :وإن شِئتَ قُلتَ فِي الجَرادَةِ ، إذ خَلَقَ لَها عَينَينِ حَمراوَينِ ، وأسرَجَ لَها حَدقَتَينِ قَمراوَينِ ، وجَعَلَ لَهَا السَّمعَ الخَفِيَّ ، وفَتَحَ لَهَا الفَمَ السَّوِيَّ ، وجَعَلَ لَهَا الحِسَّ القَوِيَّ ، ونابَينِ بِهِما تَقرِضُ ، ومِنجَلَينِ بِهِما تَقبِضُ . يَرهَبُهَا الزُّرّاعُ في زَرعِهِم ، ولا يَستَطيعونَ ذَبَّها ، ولَو أجلَبوا بِجَمعِهِم ، حَتّى تَرِدَ الحَرثَ في نَزَواتِها ، وتَقضِيَ مِنهُ شَهَواتِها . وخَلقُها كُلُّهُ لا يُكَوِّنُ إصبَعاً مُستَدِقَّةً ۳ .
1.العَسجَدُ : الذهب (لسان العرب : ج۳ ص۲۹۰) .
2.نهج البلاغة : الخطبة ۱۶۵ ، بحار الأنوار : ج۶۵ ص۳۰ ح۱ .
3.نهج البلاغة : الخطبة ۱۸۵ ، الاحتجاج : ج۱ ص۴۸۳ ح۱۱۷ ، بحار الأنوار : ج۳ ص۲۷ ح۱ ؛ ربيع الأبرار : ج۴ ص۴۵۹ .