53
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ - المجلّد الخامس

ولا يَلحَقُ طَبَقَتَهُم مَرزوقا مَرغوبا فيهِ ، كَثيرَ المَكسَبِ ، طَيِّبَ العَيشِ ، واسِعَ الرِّزقِ . فَهذا حالُ ذَوِي الِاستِحقاقِ وَالِاستِعدادِ .
وأمَّا الَّذينَ لَيسوا مِن أهلِ الفَضائِلِ ، كَحَشوِ العامَّةِ ؛ فَإِنَّهُم أيضا لايَخلونَ مِنَ الحِقدِ عَلَى الدُّنيا وَالذَّمِّ لَها ، وَالحَنَقِ وَالغَيظِ مِنها لِما يَلحَقُهُم مِن حَسَدِ أمثالِهِم وجيرانِهِم ، ولا يُرى أحَدٌ مِنهُم قانِعا بِعَيشِهِ ، ولا راضِيا بِحالِهِ ، بَل يَستَزيدُ ويَطلُبُ حالاً فَوقَ حالِهِ .
قالَ : فَإِذا عَرَفتَ هذِهِ المُقَدَّمَةَ ، فَمَعلومٌ أنَّ عَلِيّا عليه السلام كانَ مُستَحِقّا مَحروما ، بَل هُوَ أميرُ المُستَحِقّينَ المَحرومينَ ، وسَيِّدُهُم وكَبيرُهُم ، ومَعلومٌ أنَّ الَّذينَ يَنالُهُمُ الضَّيمُ ، وتَلحَقُهُمُ المَذَلَّةُ وَالهَضيمَةُ ، يَتَعَصَّبُ بَعضُهُم لِبَعضٍ ، ويَكونونَ إلبا ويَدا واحِدَةً عَلَى المَرزوقينَ الَّذين ظَفِروا بِالدُّنيا ، ونالوا مَآرِبَهُم مِنها ، لِاشتِراكِهِم فِي الأَمرِ الَّذي آلَمَهُم وساءَهُم ، وعَضَّهُم ومَضَّهُم ، وَاشتِراكِهِم فِي الأَنَفَةِ وَالحَمِيَّةِ وَالغَضَبِ وَالمُنافَسَةِ لِمَن عَلا عَلَيهِم وقَهَرَهُم ، وبَلَغَ مِنَ الدُّنيا ما لَم يَبلُغوهُ .
فَإِذا كانَ هؤُلاءِ ـ أعنِي المَحرومينَ ـ مُتَساوينَ فِي المَنزِلَةِ وَالمَرتَبَةِ ، وتَعَصَّبَ بَعضُهُم لِبَعضٍ ، فَما ظَنُّكَ بِما إذا كانَ مِنهُم رَجُلٌ عَظيمُ القَدرِ جَليلُ الخَطَرِ كامِلُ الشَّرَفِ ، جامِعٌ لِلفَضائِلِ مُحتَوٍ عَلَى الخَصائِصِ وَالمَناقِبِ ، وهُوَ مَعَ ذلِكَ مَحرومٌ مَحدودٌ ، وقَد جَرَّعَتهُ الدُّنيا عَلاقِمَها ، وعَلَّتهُ عَلَلاً بَعدَ نَهَلٍ من صابِها وصَبِرِها ، ولَقِيَ مِنها بَرحا بارِحا ، وجَهدا جَهيدا ، وعَلا عَلَيهِ مَن هُوَ دونَهُ ، وحَكَمَ فيهِ وفي بَنيهِ وأهلِهِ ورَهطِهِ مَن لَم يَكُن ما نالَهُ مِنَ الإِمرَةِ وَالسُّلطانِ في حِسابِهِ ، ولا دائِرا في خَلَدِهِ ، ولا خاطِرا بِبالِهِ ، ولا كانَ أحَدٌ مِنَ النّاسِ يَرتَقِبُ ذلِكَ لَهُ ولا يَراهُ لَهُ .
ثُمَّ كانَ في آخِرِ الأَمرِ أن قُتِلَ هذَا الرَّجُلُ الجَليلُ في مِحرابِهِ ، وقُتِلَ بَنوهُ بَعدَهُ ، وسُبِيَ حَريمُهُ ونِساؤُهُ ، وتُتُبِّعَ أهلُهُ وبَنو عَمِّهِ بِالقَتلِ وَالطَّردِ وَالتَّشريدِ وَالسُّجونِ ، مَع


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ - المجلّد الخامس
52

لَهُ ، وتَهالُكِهِم في هَواهُ ؟ ودَعني فِي الجَوابِ مِن حَديثِ الشَّجاعَةِ وَالعِلمِ وَالفَصاحَةِ ، وغَيرِ ذلِكَ مِنَ الخَصائِصِ الَّتي رَزَقَهُ اللّهُ سُبحانَهُ الكَثيرَ الطَّيِّبَ مِنها .
فَضَحِكَ وقالَ لي : كَم تَجمَعُ جَراميزَكَ ۱ عَلَيَّ !
ثُمَّ قالَ : هاهُنا مُقَدِّمَةٌ يَنبَغي أن تُعلَمَ ؛ وهِيَ أنَّ أكثَرَ النّاسِ مَوتورونَ مِنَ الدُّنيا ، أمَّا المُستَحِقّونَ فَلا رَيبَ في أنَّ أكثَرَهُم مَحرومونَ ، نَحوُ عالِمٍ يَرى أنَّهُ لا حَظَّ لَهُ فِي الدُّنيا ، ويَرى جاهِلاً غَيرَهُ مَرزوقا ومُوَسَّعا عَلَيهِ .
وشُجاعٍ قَد أبلى فِي الحَربِ ، وَانتُفِعَ بِمَوضِعِهِ ، لَيسَ لَهُ عَطاءٌ يَكفيهِ ويَقومُ بِضَروراتِهِ ، ويَرى غَيرَهُ وهُوَ جَبانٌ فَشِلٌ ، يَفرَقُ مِن ظِلِّهِ ، مالِكا لِقُطرٍ عَظيمٍ مِنَ الدُّنيا ، وقِطعَةٍ وافِرَةٍ مِنَ المالِ وَالرِّزقِ .
وعاقِلٍ سَديدِ التَّدبيرِ صَحيحِ العَقلِ ، قَد قُدِرَ عَلَيهِ رِزقُهُ ، وهُوَ يَرى غَيرَهُ أحمَقَ مائِقا تَدُرُّ عَلَيهِ الخَيراتُ ، وتَتَحَلَّبُ عَلَيهِ أخلافُ الرِّزقِ .
وذي دينٍ قَويمٍ ، وعِبادَةٍ حَسَنَةٍ ، وإخلاصٍ وتَوحيدٍ ، وهُوَ مَحرومٌ ضَيِّقُ الرِّزقِ ويَرى غَيرَهُ يَهودِيّا أو نَصرانِيّا أو زِنديقا كَثيرَ المالِ حَسَنَ الحالِ .
حَتّى إنَّ هذِهِ الطَّبَقاتِ المُستَحِقَّةَ يَحتاجونَ في أكثَرِ الوَقتِ إلَى الطَّبَقاتِ الَّتي لَا استِحقاقَ لَها ، وتَدعوهُمُ الضَّرورَةُ إلَى الذُّلِّ لَهُم ، وَالخُضوعِ بَينَ أيديهِم ، إمّا لِدَفعِ ضَرَرٍ ، أو لِاستِجلابِ نَفعٍ .
ودونَ هذِهِ الطَّبَقاتِ مِن ذَوِي الاِستِحقاقِ أيضا ما نُشاهِدُهُ عِيانا من نَجّارٍ حاذِقٍ ، أو بَنّاءٍ عالِمٍ ، أو نَقّاشٍ بارِعٍ ، أو مُصَوِّرٍ لَطيفٍ ، عَلى غايَةِ ما يَكونُ مِن ضيقِ رِزقِهِم ، وقُعودِ الوَقتِ بِهِم ، وقِلَّةِ الحيلَةِ لَهُم ، ويَرى غَيرَهُم مِمَّن لَيسَ يَجري مَجراهُم ،

1.الجَراميز : قيل : هي اليدان والرجلان ، وقيل : هي جُملة البدن (النهاية : ج۱ ص۲۶۳) .

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ - المجلّد الخامس
    سایر پدیدآورندگان :
    محمّد محمّدی ریشهری، با همکاری: سیّد محمّدکاظم طباطبایی
    تعداد جلد :
    8
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 24495
صفحه از 520
پرینت  ارسال به