581
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ - المجلّد الثّالث

قبل . وممّا كان صلى الله عليه و آله قد قاله للإمام عليه السلام :
«يا عَلِيُّ ! لَولا أنتَ لَما قوتِلَ أهلُ النَّهرِ ، قالَ : فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ! ومَن أهلُ النَّهرِ ؟ قالَ : قَومٌ يَمرُقونَ مِنَ الإِسلامِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» ۱ .

الإمام ومباهاته باجتثاث فتنة «التعمّق»

اتّضح ممّا ذكرناه إلى الآن حول تيّار «التعمّق» والوجوه المنتمية إليه أنّ الاصطدام به كان عملاً صعبا ، وحقيقة الأمر أنّ استئصال جذور هذه الفتنة ـ التي كانت في ظاهرها تيّارا وطيدا في التديّن ـ عملٌ في غاية الإعضال ، وكان الإمام عليه السلام يرى أنّ إبادة هذا التيّار واقتلاع جذور الفتنة من مفاخر عصر خلافته ، فقد قال عليه السلام :
«إنّي فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ، ولَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري» ۲ .
إنّ قتالَ أدعياء الحقّ ؛ القرّاء الذين كانت ترنيمات القرآن قد ملأت حياتهم ، وجرى على السنتهم نداء «لا حُكْم إلّا للّه » وهم بِسيَرٍ ربّانيّة الظاهر ، عملٌ جدُّ عسير ؛ فهؤلاء كانوا يُحيون الليل بالعبادة ، ويخرّون للأذقان سُجّدا سجدات طويلة ، وجباههم ثفنات من كثرة السجود . وكانوا لا يعرفون حدّا لانتقاد غيرهم ، واشتُهروا بوصفهم رجالاً اُولي شأنٍ وقوّةٍ في الدين . لكن واأسفاه ! إذ كانوا مرضى القلوب ، ضيّقي الأفكار ، صغار العقول .
من هنا كان الاصطدام بتيّار «التعمّق» ـ بناءً على ما ذُكر ـ ممّا لم يقدر عليه يومئذ إلّا الإمام عليه السلام وكان قمعه يتطلّب بصيرة وحزما خاصّا متميّزا لم يقدر عليه سوى عليّ عليه السلام . وهذه الكلمة كلمته المشهورة التي نطق بها بعد قتال الخوارج لم يَقُلها ـ لذلك ـ في حربه مع «الناكثين» و«القاسطين» فإنّه ما قال في قتال هاتين الطائفتين : «لَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري» أو «لَولا أنَا ما قُوتِلَ . . .» ، بيد أنّه قال ذلك في قتال الخوارج .

1.راجع : ص۶۰۶ ح۲۶۳۳ .

2.راجع : ص۱۲ .


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ - المجلّد الثّالث
580

انفصال القرّاء عن الإمام

ما لبث أن اُميط اللثام ، وافتضحت خديعة معاوية ، وأدرك القرّاء السطحيّون خطأهم وانخداعهم بمكيدة رفع المصاحف ، ولكنّهم بدل أن يستفيقوا فيعيدوا الحقّ إلى نصابه ، والماء إلى مسابه نراهم كابروا بمضاعفة تطرّفهم ، وجهلهم ، وإفراطهم ، ونظرتهم الضيّقة المنغلقة ، واجترحوا سيّئةً أكبر من سابقتها ، فقالوا للإمام عليه السلام : لقد كفرنا بفعلنا هذا ، وإنّا تائبون منه ، وأنت كفرت أيضا ؛ فعليك أن تتوب مثلنا ، وتنكث ما عاهدت عليه معاوية ، وتعود إلى مقاتلته !
ولا ريب في أنّ نكث الإمام عهدَهُ ـ مضافا إلى ما فيه من مخالفةٍ لسيرته واُسلوبه وتعاليم دينه ـ يُفضي إلى تضييق هؤلاء «المتقدّسين» المتعنّتين الخناق على الإمام عليه السلام ، وتحديد نطاق حكومته إلى درجة ينفلت معها زمام الاُمور ، ويفقد عليه السلام القدرة على صنع قراره في الحرب والسلم ، والسياسة والإدارة ؛ وتخرج الاُمور المهمّة من يده . فلذا واجه عليه السلام هذا الطلب الجهول بكلّ قوّة ، لكنّ اُولئك القرّاء بدل أن يتأمّلوا في هشاشة موقفهم الأحمق هذا ، افترقوا ـ عند الرجوع من صفّين ـ عن أمير المؤمنين وإمام المتديّنين ؛ انطلاقا من «التعمّق» في الدين والإفراط في السلوك المشين ، وعسكروا في «حروراء» قريبا من الكوفة .

انقلاب «القرّاء» إلى «المارقين»

أجَل ، تحقّقت نبوءة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ وإذا الذين كانوا بالأمس وجوه المسلمين البارزة ، وممّن جمعوا في حياتهم بين الجهاد والقتال ، والزهد والعبادة ، يقفون اليوم أمام الدين وإمام المسلمين بسبب إصابتهم بداء التعمّق والتطرّف ؛ متذرّعين بذريعة الدفاع عن ساحة القرآن وحريم الدين . وهكذا أخرجهم داء الإفراط والتطرّف من الدين حتى لم يبق في نفوسهم للدين من أثر .
وهكذا استحقّوا عنوان «المارقين» الذي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد وصفهم به من

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ - المجلّد الثّالث
    سایر پدیدآورندگان :
    محمّد محمّدی ریشهری، با همکاری: سیّد محمّدکاظم طباطبایی
    تعداد جلد :
    8
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 25092
صفحه از 670
پرینت  ارسال به