ونجد هذا المعنى أيضا في كلام المحدّثين ؛ فقد ذهبوا في شرح روايات جمّة إلى أنّ التعمّق هو الإغراق في الخروج عن الاعتدال ، والإفراط في مقابل الاعتدال ۱ .
إنّ التنقيب عن مواضع استعمال «التعمّق» في المعاجم والأحاديث الإسلاميّة المنقولة في مصادر الفريقين لا يُريب الباحث في أنّ المراد من هذه الكلمة في الثقافة الإسلاميّة ليس إلّا الإفراط ، والتطرّف ، والخروج عن الاعتدال . وعلى أيّ حال لو لم يكن إلّا الحديث الذي أوردناه آنفا لكفى به برهانا على ما نقول .
وكان النبيّ صلى الله عليه و آله يوصي أصحابه دائما ألّا يتجاوزوا حدّ الاعتدال في اُمور الدين ، ولا يُحرجوا أنفسهم ، ولا يفقدوا حماسهم ونشاطهم في العبادة ، وأن يُراعوا حدود السنّة ، ولأنّ المجال هنا يضيق عن ذكر جلّ وصاياه وتعاليمه التربويّة المليئة بالدروس والعبر ، الجديرة بالقراءة والتأمّل . فإننا نذكر نزرا يسيرا منها :
«ألا وإنَّ لِكُلِّ عِبادَةٍ شِرَّةً ، ثُمَّ تَصيرُ إلى فَترَةٍ ، فَمَن صارَت شِرَّةُ عِبادَتِهِ إلى سُنَّتي فَقَدِ اهتَدى ، ومَن خالَفَ سُنَّتي فَقَد ضَلَّ ، وكانَ عَمَلُهُ في تَبابٍ ، أما إنّي اُصَلّي وأنامُ ، وأصومُ واُفطِرُ ، وأضحَكُ وأبكي ؛ فَمَن رَغِبَ عَن مِنهاجي وسُنَّتي فَلَيسَ مِنّي» ۲ .
وكان صلى الله عليه و آله ينظر في مرآة الزمان إلى أفراد من اُمّته يناهضون الحقّ لإفراطهم وتطرّفهم ، ويصرّون على موقفهم إصرارا سُرعان ما يُبعدهم عن الدين وحقائقه ،
1.قال المجلسي قدس سره في بيان ما روي عن الإمام الكاظم عليه السلام : «لا تعمّق في الوضوء» : أي بإكثار الماء ، أو بالمبالغة كثيرا في إيصال الماء زائدا عن الإسباغ المطلوب» . بحار الأنوار : ج۸۰ ص۲۵۸ وراجع وسائل الشيعة : ج۱ ص۴۳۴ «باب استحباب صفق الوجه بالماء قليلاً عند الوضوء وكراهة المبالغة في الضرب ، والتعمّق في الوضوء» وصحيح البخاري : ج۶ ص۲۶۶۱ «باب ما يكره من التعمّق والتنازع في العلم والغلوّ في الدين والبِدع» .
2.الكافي : ج۲ ص۸۵ ح۱ وراجع كنز العمّال : ج۱۶ ص۲۷۶ ح۴۴۴۳۹ .