407
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ - المجلّد الثّانی

أكونَ اُسوَةً لَهُم في جُشوبَةِ العَيشِ ! فَما خُلِقتُ لِيَشغَلَني أكلُ الطَّيِّباتِ ، كَالبَهيمَةِ المَربوطَةِ ، هَمُّها عَلَفُها ، أوِ المُرسَلَةِ شُغُلُها تَقَمُّمُها ۱ ، تَكتَرِشُ مِن أعلافِها ، وتَلهو عَمّا يُرادُ بِها ، أو اُترَكَ سُدىً ، أو اُهمَلَ عابِثا ، أو أجُرَّ حَبلَ الضَّلالَةِ ، أو أعتَسِفَ طَريقَ المَتاهَةِ ! . . .
إلَيكِ عَنّي يا دُنيا ، فَحَبلُكِ عَلى غارِبِكِ ، قَدِ انسَلَلتُ مِن مَخالِبِكِ ، وأفلَتُّ مِن حَبائِلِكِ ، وَاجتَنَبتُ الذَّهابَ في مَداحِضِكِ . أينَ القُرونُ الَّذينَ غَرَرتِهِم بِمَداعِبِكِ ! أينَ الاُمَمُ الَّذينَ فَتَنتِهِم بِزَخارِفِكِ ! فَهاهُم رَهائِنُ القُبورِ ، ومَضامينُ اللُّحودِ .
وَاللّهِ لَو كُنتِ شَخصا مَرئِيّا ، وقالَبا حِسِّيا ، لَأَقمتُ عَلَيكِ حُدودَ اللّهِ في عِبادٍ غَرَرتِهِم بِالأَماني ، واُمَمٍ ألقَيتِهِم فِي المَهاوي ، ومُلوكٍ أسلَمتِهِم إلَى التَّلَفِ ، وأورَدتِهِم مَوارِدَ البَلاءِ ؛ إذ لا وِردَ ولا صَدَرَ !
هَيهاتَ ! مَن وَطِئَ دَحضَكِ زَلِقَ ، ومَن رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ ، ومَنِ ازوَرَّ عَن حَبائِلِكِ وُفِّقَ ، وَالسّالِمُ مِنكِ لا يُبالي إن ضاقَ بِهِ مُناخُهُ ، وَالدُّنيا عِندَهُ كَيَومٍ حانَ انسِلاخُهُ .
اُعزُبي عَنّي ! فَوَاللّهِ لا أذِلُّ لَكِ فَتَستَذِلّيني ، ولا أسلَسُ لَكِ فَتَقوديني . وَايمُ اللّهِ ـ يَمينا أستَثني فيها بِمَشيئَةِ اللّهِ ـ لَأَروضَنَّ نَفسي رِياضةً تَهِشُّ ۲ مَعَها إلَى القُرصِ إذا قَدَرتُ عَلَيهِ مَطعوما ، وتَقنَعُ بِالمِلحِ مَأدوما ، ولَأَدَعَنَّ مُقلَتي كَعَينِ ماءٍ ، نَضَبَ مَعينُها ، مُستَفرِغَةً دُموعَها . أ تَمتَلِئُ السّائِمَةُ مِن رَعيِها فَتَبرُكَ ؟ وتَشبَعُ الرَّبيضَةُ مِن عُشبِها فَتَربِضَ ۳ ؟ ويَأكُلُ عَلِيٌّ مِن زادِهِ فَيَهجَعَ ! قَرَّت إذا عَينُهُ إذَا اقتَدى بَعدَ السِّنينَ المُتَطاوِلَةِ بِالبَهيمَةِ الهامِلَةِ ، وَالسّائِمَةِ المَرعِيَّةِ !

1.تَقَمَّم : تتبّع القُمام في الكُناسات (لسان العرب : ج۱۲ ص۴۹۳) .

2.هشّ لهذا الأمر يَهِشّ : إذا فرح واستبشر وارتاح له وخفَّ (النهاية : ج۵ ص۲۶۴) .

3.ربض في المكان يربِض : إذا لصق به وأقام ملازما له (النهاية : ج۲ ص۱۸۴) .


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ - المجلّد الثّانی
406

اكتَفى مِن دُنياهُ بِطِمرَيهِ ۱ ، ومِن طُعمِهِ بِقُرصَيهِ ، ألا وإنَّكُم لا تَقدِرونَ عَلى ذلِكَ ، ولكِن أعينوني بِوَرَعٍ وَاجتِهادٍ ، وعِفَّةٍ وسَدادٍ .
فَوَاللّهِ ما كَنَزتُ مِن دُنياكُم تِبرا ، ولَا ادَّخَرتُ مِن غَنائِمِها وَفرا ، ولا أعدَدتُ لِبالي ثَوبي طِمرا ، ولا حُزتُ مِن أرضِها شِبرا ، ولا أخَذتُ مِنهُ إلّا كَقوتِ أتانٍ دَبِرَةٍ ۲ ، ولَهِيَ في عَيني أوهى وأهوَنُ مِن عَفصَةٍ مَقِرَةٍ ۳ .
بَلى ! كانَت في أيدينا فَدَكٌ مِن كُلِّ ما أظَلَّتهُ السَّماءُ ، فَشَحَّت عَلَيها نُفوسُ قَومٍ ، وسَخَت عَنها نُفوسُ قَومٍ آخَرين ، ونِعمَ الحَكَمُ اللّهُ .
وما أصنَعُ بِفَدَكٍ وغَيرِ فَدَكٍ ؟ وَالنَّفسُ مَظانُّها في غَدٍ جَدَثٌ ، تَنقَطِعُ في ظُلمَتِهِ آثارُها ، وتَغيبُ أخبارُها . وحُفرَةٌ لَو زيدَ في فُسحَتِها ، وأوسَعت يَدا حافِرِها ، لَأَضغَطَها الحَجَرُ وَالمَدَرُ ، وسَدَّ فُرَجَهَا التُّرابُ المُتَراكِمُ .
وإنَّما هِيَ نَفسي أروضُها بِالتَّقوى لِتَأتِيَ آمِنَةً يَومَ الخَوفِ الأَكبَرِ ، وتَثبُتَ عَلى جوانِبِ المَزلَقِ . ولَو شِئتُ لَاهتَدَيتُ الطَّريقَ إلى مُصَفّى هذَا العَسَلِ ، ولُبابِ هذَا القَمحِ ، ونَسائِجِ هذَا القَزِّ ، ولكِن هَيهاتَ أن يَغلِبَني هَوايَ ، ويَقودَني جَشَعي إلى تَخَيُّرِ الأَطعِمَةِ ولَعَلَّ بِالحِجازِ أوِ اليَمامَةِ مَن لا طَمَعَ لَهُ فِي القُرصِ ، ولا عَهدَ لَهُ بِالشِّبَعِ ، أوَ أبيتَ مِبطانا وحَولي بُطونٌ غَرثى وأكبادٌ حَرّى ، أو أكونَ كَما قالَ القائِلُ :


وحَسبُكَ داءً أن تَبيتَ بِبِطنَةٍ
وحَولَكَ أكبادٌ تَحِنُّ إلَى القِدِّ !

أ أقنَعُ مِن نَفسي بِأَن يُقالَ :هذا أميرُ المُؤمِنينَ ، ولا اُشارِكُهُم في مَكارِهِ الدَّهرِ ، أو

1.الطِّمْر : الثوب الخَلَق (النهاية : ج۳ ص۱۳۸) .

2.وهي الَّتي عُقر ظهرها ، فقلّ أكلُها (شرح نهج البلاغة : ج۱۶ ص۲۰۷) .

3.العَصف والعَصفة : ما كان على ساق الزرع من الورق الَّذي ييبس فيتفتّت (لسان العرب : ج۹ ص۲۴۷) ، والمَقِر : الصبر ؛ وهو هذا الدواء المرّ المعروف (النهاية : ج۴ ص۳۴۷) .

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ - المجلّد الثّانی
    سایر پدیدآورندگان :
    محمّد محمّدی ریشهری، با همکاری: سیّد محمّدکاظم طباطبایی
    تعداد جلد :
    8
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 32251
صفحه از 600
پرینت  ارسال به