أكونَ اُسوَةً لَهُم في جُشوبَةِ العَيشِ ! فَما خُلِقتُ لِيَشغَلَني أكلُ الطَّيِّباتِ ، كَالبَهيمَةِ المَربوطَةِ ، هَمُّها عَلَفُها ، أوِ المُرسَلَةِ شُغُلُها تَقَمُّمُها ۱ ، تَكتَرِشُ مِن أعلافِها ، وتَلهو عَمّا يُرادُ بِها ، أو اُترَكَ سُدىً ، أو اُهمَلَ عابِثا ، أو أجُرَّ حَبلَ الضَّلالَةِ ، أو أعتَسِفَ طَريقَ المَتاهَةِ ! . . .
إلَيكِ عَنّي يا دُنيا ، فَحَبلُكِ عَلى غارِبِكِ ، قَدِ انسَلَلتُ مِن مَخالِبِكِ ، وأفلَتُّ مِن حَبائِلِكِ ، وَاجتَنَبتُ الذَّهابَ في مَداحِضِكِ . أينَ القُرونُ الَّذينَ غَرَرتِهِم بِمَداعِبِكِ ! أينَ الاُمَمُ الَّذينَ فَتَنتِهِم بِزَخارِفِكِ ! فَهاهُم رَهائِنُ القُبورِ ، ومَضامينُ اللُّحودِ .
وَاللّهِ لَو كُنتِ شَخصا مَرئِيّا ، وقالَبا حِسِّيا ، لَأَقمتُ عَلَيكِ حُدودَ اللّهِ في عِبادٍ غَرَرتِهِم بِالأَماني ، واُمَمٍ ألقَيتِهِم فِي المَهاوي ، ومُلوكٍ أسلَمتِهِم إلَى التَّلَفِ ، وأورَدتِهِم مَوارِدَ البَلاءِ ؛ إذ لا وِردَ ولا صَدَرَ !
هَيهاتَ ! مَن وَطِئَ دَحضَكِ زَلِقَ ، ومَن رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ ، ومَنِ ازوَرَّ عَن حَبائِلِكِ وُفِّقَ ، وَالسّالِمُ مِنكِ لا يُبالي إن ضاقَ بِهِ مُناخُهُ ، وَالدُّنيا عِندَهُ كَيَومٍ حانَ انسِلاخُهُ .
اُعزُبي عَنّي ! فَوَاللّهِ لا أذِلُّ لَكِ فَتَستَذِلّيني ، ولا أسلَسُ لَكِ فَتَقوديني . وَايمُ اللّهِ ـ يَمينا أستَثني فيها بِمَشيئَةِ اللّهِ ـ لَأَروضَنَّ نَفسي رِياضةً تَهِشُّ ۲ مَعَها إلَى القُرصِ إذا قَدَرتُ عَلَيهِ مَطعوما ، وتَقنَعُ بِالمِلحِ مَأدوما ، ولَأَدَعَنَّ مُقلَتي كَعَينِ ماءٍ ، نَضَبَ مَعينُها ، مُستَفرِغَةً دُموعَها . أ تَمتَلِئُ السّائِمَةُ مِن رَعيِها فَتَبرُكَ ؟ وتَشبَعُ الرَّبيضَةُ مِن عُشبِها فَتَربِضَ ۳ ؟ ويَأكُلُ عَلِيٌّ مِن زادِهِ فَيَهجَعَ ! قَرَّت إذا عَينُهُ إذَا اقتَدى بَعدَ السِّنينَ المُتَطاوِلَةِ بِالبَهيمَةِ الهامِلَةِ ، وَالسّائِمَةِ المَرعِيَّةِ !
1.تَقَمَّم : تتبّع القُمام في الكُناسات (لسان العرب : ج۱۲ ص۴۹۳) .
2.هشّ لهذا الأمر يَهِشّ : إذا فرح واستبشر وارتاح له وخفَّ (النهاية : ج۵ ص۲۶۴) .
3.ربض في المكان يربِض : إذا لصق به وأقام ملازما له (النهاية : ج۲ ص۱۸۴) .