27
الشريف المرتضى و المعتزلة

فقد تمكّن هؤلاء الأعلام من نقل علم الكلام الإمامي نقلة نوعية جعلته يضاهي الأبحاث الكلامية العميقة لدى الفرق الأخرى. وقد بدأت هذه النهضة بابن المعلّم الشيخ المفيد الذي أسّس مدرسة كلامية كبيرة في بغداد، تخرَّج منها متكلّمون لامعون قلّما يجود بهم الزمان. ثم انتقل الدور بعد ذلك إلى الشريف المرتضى الذي أعطى زخماً علمياً هائلاً، ودفعة قوية لتلك النهضة، حيث كان يتمتّع بحرّية فكرية، واحتراف علمي نادر، ونبوغ عقلي منقطع النظير، أهَّله لقيادة دفّة تلك النهضة. إلى أن وصلت النوبة إلى الشيخ الطوسي الذي قام بإكمال تلك المسيرة من خلال ما ألَّفه من كتب كلامية هامّة، ومن خلال مَن ربّاه من تلامذة كان لهم دور هامّ في إرساء دعائم علم الكلام الإمامي.

إذن لقد عاش الشيعة الإمامية في القرنين الرابع والخامس في بغداد عصراً ذهبياً ترك بصماته على سائر العصور التي تلته، رغم الإنتاج المهمّ الذي قدّمته المدارس الإمامية في العصور اللاحقة، كمدرسة الحلّة في القرنين السابع والثامن، وأصفهان في القرنين العاشر والحادي عشر، والنجف في القرنين الثالث عشر والرابع عشر.

لقد كان لهذا العصر الأثر البالغ في إغناء فكر المرتضى، من خلال الأساتذة الذين حضر على أيديهم، والمكتبات المهمّة التي كانت متوفّرة آنذاك، والأجواء الفكرية والعلمية المفتوحة وغير ذلك، كلّ ذلك أسهم في البناء الفكري للمرتضى.

الحياة السياسية في عصر الشريف المرتضى

لقد مرَّ البيت العبّاسي - الذي بنى دولته على أنقاض دولة البيت الأُموي - بعدّة فترات، كان الخليفة في بعض تلك الفترات هو الآمِر الناهي، وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة، حتى إنّه كان يستطيع أن يبطش بأكبر قيادات وشخصيات دولته، ويمعن في قتلهم من دون أن يتسبّب ذلك في إضعاف مكانته السياسية، كما حصل بالنسبة لهارون الرشيد مع البرامكة. ولكن بعد ذهاب بعض الخلفاء العباسيين، أعني بهم المعتصم (ت۲۲۷ه‍ )، والواثق (ت۲۳۲ه‍ )، ومجيء المتوكّل (ت۲۴۷ه‍ )، وظهور العنصر التركي كلاعب أساسي في الحياة السياسية، بحيث


الشريف المرتضى و المعتزلة
26

لقد تميّزت الحياة الفكرية الإمامية في القرنين الرابع والخامس بظهور موسوعات حديثية ضخمة عُرفت بالكتب الأربعة، تمَّ الاستغناء بها عن مجموعات حديثية صغيرة كان يتداولها الشيعة فيما بينهم، عُرفت بالأصول الأربعمائة، والكتب الأربعة هي الكافي للكليني (ت۳۲۹ه‍ )، وكتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق (ت۳۸۱ه‍ )، والتهذيب والاستبصار للطوسي (ت۴۶۰ه‍ ).

ومن الأمور التي تفرّد بها الإمامية، وسبقوا بها أكثر الفرق الإسلامية هي كتابة الفهارس، فقد اهتمّوا بحصر الكتب التي ألَّفها الشيعة والتعرّف عليها، ولم يكتفوا بذلك، بل اهتمّوا بمعرفة سند نسخ الكتب التي كانت في حوزتهم، وهو أمر يعدّ سابقة في مجال توثيق الكتب والمخطوطات، وقد بقي من تلك الفهارس رسالة أبي غالب الزراري (ت۳۶۸ه‍ )، وفهرست النجاشي (ت۴۵۰ه‍ )، والطوسي (ت۴۶۰ه‍ )، وغيرها.

وأمّا في مجال الفقه فقد كانت الكتب الفقهية الشيعية في البداية عبارة عن نفس روايات أهل البيت علیهم السّلام مع أسانيدها، كما نشاهد ذلك في الكتب الأربعة، لكن في هذه الفترة التي نتحدّث عنها أخذت تظهر كتب فقهية حُذفت منها أسانيد الروايات، وتمّ الإبقاء على مضمون تلك الروايات، كما في كتاب المقنع للصدوق، والمقنعة للمفيد، والنهاية للطوسي. إضافة إلى أنّه قد ظهرت في هذه الفترة أيضاً كتب الفقه المقارن، مثل الإعلام للمفيد، والانتصار والناصريات للمرتضى، والخلاف للطوسي، فقد تمّت المقارنة في هذه الكتب بين الآراء الفقهية الإمامية مع باقي مذاهب أهل السنة، وحتّى الزيدية كما في حالة الناصريات.

وأمّا علم الكلام فقد ظهرت شخصيات شيعية مهمّة، مثل أبي الجيش البلخي۱ الذي وُصف بأنّه: (شيخ الشيعة)، والذي كان يدخل في مناظرات مع باقي الفرق۲. ولكن لم يَنَل علم الكلام الإمامي في القرنين الرابع والخامس مكانة مرموقة إلّا على يد الشيخ المفيد وتلامذته من أمثال الشريف المرتضى، والشيخ الطوسي، وغيرهم،

1.. انظر، النجاشي، رجال النجاشي، ص۴۲۲.

2.. التوحيدي، أخلاق الوزيرَين، ص۱۰۵.

  • نام منبع :
    الشريف المرتضى و المعتزلة
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    انتشارات دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    01/01/1399
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 935
صفحه از 275
پرینت  ارسال به