ولكنّ الحقّ في هذا المقام القول بالتفصيل بعد الاستفسار بأن يقال أوّلاً : هل المراد منها العقليّتان أوالحسّيّتان ؟ وعلى الأخير هل المراد حالهما بالقياس إلى نفسهما ، أو بالقياس إلى النفس التي تستعملهما ؟ وعلى الثاني بالقياس إلى الحيوان مطلقاً ، أو بالقياس إلى الإنسان خاصّة ؟ وعلى الثاني من جهة دنياه ، أو من جهة اُخراه ؟ وعلى [ الثاني ] من جهة العلم ، أو من جهة العمل ؟ وفي هذه النشأة ، أو في النشأة الآخرة ، ثمّ يقاس بينهما في واحد من الأقسام ، فيظهر عند ذلك أنّ الحكم بالأفضليّة على الإطلاق لواحد منهما بخصوصه على صاحبه غير صحيح كما لا يخفى على من له صحّة البصيرة .
قال عليه السلام : وقال « أم تحتسب أنّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون » ۱ . [ ص۱۵ ح۱۲ ]
أقول : لعلّه ۲ يظهر سرّه بتمهيد مقدّمة هي أنّ الإنسان مركّب من جوهرين : روح ، وبدن ، قد يقع التخالف بينهما في هذه النشأة ، وذلك لكونه قابلاً لاكتساب الملكات والأخلاق ، فإنّ من فعل فعلاً أو تكلّم بكلام ، جُعل منه في نفسه أثر وحال يبقى زماناً ، وإذا تكرّرت الأفاعيل من باب واحد ، استحكمت الآثار في النفس فصارت الحال ملكةً وصورةً ، فيصدر منها بسببها الأفعال بسهولة من غير رويّة وحاجة إلى تجشّم كسب جديد بعد ما لم يكن كذلك .
وإليه الإشارة في باب الملكة العلميّة بقوله تعالى : « يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ » ۳ .
ومن هذا الوجه يحصل تعلّم الصنائع والمكاسب العلميّة ، ولو لم يكن هذا التأثّر والتلاحق للنفس الإنسانيّة في الاشتداد فيها يوماً فيوماً ، لم يمكنها تعلّم شيء من الحِرَف والصنائع ، وما لم ينجع فيها التأديب والتهذيب ، لم يكن في تأديب الأفعال