وسيلة للخلق على الحقّ سبحانك تنزيهاً لك في حقّيّتك عن الشبه بخلقيّتك ۱ ، والاحتياج إلى بريّتك ، فقنا ـ يا مستغني عنّا ـ عذاب النار نارَ قهرك وقطيعتك .
وأمّا دلالتها على مدح اُولي الألباب ، فهي ظاهرةٌ لأنّ معرفة الآيات والحِكَم التي في العالم والاطّلاع على دقائق الصنع وعجائب الفطرة التي في خلق الموجودات السماويّة والأرضيّة ممّا لا يحصل إلاّ في قليل من النفوس الذكيّة الزكيّة القدسيّة ؛ لأنّ الناظر المتأمّل فيها يحتاج إلى زيد تجريد للعقل ، وتطهير للنفس ، وتهذيب للخاطر عن الوساوس العاديّة وتصفية للفكر عن الأخلاط الوهميّة ، وانقطاع عن الشوائب الحسّيّة ولابدّ له أيضاً من فهم لطيف ، وطبع مشتغل ذكيّ وفكر دقيق ، وقلب نورانيّ كالقنديل الذي فيه السراج وإنّما الآيات آيات بالقياس إلى مثلهم لا بالقياس إلى أهل القساوة ، وهم أكثر الخلق ، ولا بالقياس إلى المعرضين عن الحكمة والنظر في آيات اللّه ، وهم أهل الجحود كما يشير إليه قوله تعالى : « وَ كَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِى السَّمَـوَ تِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَ هُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ » ۲ .
فالفائز بمعرفة الآيات والحِكَم التي فيها مترقٍّ إلى درجة الملائكة المقرّبين والأبرار العلّيّين ، والمعرض عنها نازل إلى منزلة الفجّار والشياطين في سجّين ، قوله تعالى : « أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَـبِ » ۳ هذا من قبل قوله : « هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ » ۴ فإنّ العالم بصير والجاهل أعمى ؛ لأنّ الإنسان مركّب من جوهرين : بدن ونفس ، والأوّل من عالم المُلك والشهادة ، والثاني من عالم الغيب والملكوت.
ولكلّ منهما أجزاء وقوى بما فيه مثال للآخَر بحسب الفطرة لكن قوى البدن متفرّقة