أنّ هذا الهم صدقني عن الصفة التي يجب أن يكون رأيي عليها وتلك الصفة هي ألاّ يفكر في أمر شيء من الموجودات أصلاً إلاّ اللّه تعالى ونفسه ؛ وفوق هذه الطبقة طبقة أُخرى جداً وهي ألاّ تفكر في شيء قطّ إلاّ في اللّه وحده ، وفوق هذه الطبقة طبقة أُخرى تجلّ عن الذكر والتفسير ، ولا تصلح لأحد من المخلوقين إلا النادر الشاذ ، وقد ذكرها هو فيما سبق ، وهو ألاّ يفكر في شيء أصلاً ، لا في المخلوق ولا في الخالق ؛ لأنّه قد قارب أن يتّحد بالخالق ، ويستغني عن الفكر فيه .
قوله : «وصرفني عن هواي» ، أي عن هواي وفكري في تدبير الخلافة وسياسة الرعيّة والقيام بما يقوم به الأئمة . «وصرّح لي محض أمري» ، يروى بنصب محض «ورفعه» ؛ فمن نصب فتقديره : عن محض أمري ؛ فلمَّا حذف الجار نصب ، ومن رفع جعله فاعلاً . وصرّح : كشف أو انكشف . «فأَفضى به إلى كذا» ، ليس بمعنى أنه قد كان من قبل يمازج جدّه باللعب ؛ بل المعنى أنّ همومه الأُولى قد كانت بحيث يمكن أن يتخلّلها وقت راحة أو دُعابة لا يخرج بها عن الحق ، كما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يمزح ولا يقول إلاّ حقا ، فالآن قد حدث عنده همّ لا يمكن أن يتخلّله من ذلك شيء أصلاً . وكذلك القول في قوله : «وصدق لا يشوبه كذب» أي لا يمكن أن يشوبه كذب ؛ وليس المراد بالصدق والكذب هاهنا مفهومهما المشهورين ؛ بل هو من قولهم : صدَقونا اللقاء ، ومن قولهم : حمل عليهم فما كذب ! أي أفضى به هذا الهمّ إلى أن صدقتني الدنيا حربها ، كأنه جعل نفسه محاربا للدنيا ، أي صدقتني الدنيا حربها ولم تكذب ، أي لم تجبن ولم تَخُنْ .
أخبر عن شدّة اتّحاد ولده به ، فقال وجدتك بعضي ، قال الشاعر :
وإنّما أولادُنا بينناأكبادُنا تمشي على الأرض
لو هبّت الرّيح على بعضهمْلامتنعتْ عيني من الغَمْض
الأصْلُ:
۰.فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللّهِ - أَيْ بُنيَّ - وَلُزُومِ أَمْرِهِ ، وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ ، وَالاْعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ .وَأَيُّ سَبَبٍ أَوْثقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنكَ وَبَيْنَ اللّهِ ؛ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ !
أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ ، وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ